العمال في زمن التحوّل الرقمي: دعوة لحماية الحقوق وضمان العدالة الرقمية
يعيش العالم اليوم في خضم تحوّل رقمي شامل يعيد تشكيل أنماط الحياة وأساليب العمل ويغير جذرياً البنية الاقتصادية والاجتماعية للدول ولم تعد التكنولوجيا الرقمية ترفاً بل أصبحت جزءاً أساسياً من البنية التحتية للعمل والإنتاج والتواصل، وفي هذا السياق برزت حاجة ملحة لإعادة التفكير في حقوق العمال وموقعهم ضمن هذه التحولات المتسارعة التي فرضت نماذج جديدة من العمل أبرزها العمل عن بعد والعمل عبر المنصات الرقمية والعمل المؤقت وجميعها أنماط تستدعي قراءة معمقة لضمان العدالة الرقمية وحماية الكرامة الإنسانية للعامل في هذا العصر الجديد
لقد ساهمت الأدوات الرقمية في فتح آفاق جديدة أمام الملايين من العاملين حول العالم وأتاحت فرصاً للعمل الحر والعمل الجزئي والعمل العابر للحدود مما وفر دخلًا للكثيرين لا سيما في البلدان النامية، غير أن هذه التحولات رافقتها تحديات كبيرة تتعلق بالاستقرار المهني وغياب الحماية الاجتماعية وغياب التشريعات التي تواكب طبيعة العمل الرقمي، ففي منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على سبيل المثال تشير تقارير منظمة العمل الدولية إلى أن غالبية العمال في الاقتصاد الرقمي يعملون في ظروف هشة ويفتقرون إلى العقود الواضحة والتأمين الصحي والضمان الاجتماعي كما أن النساء والشباب يشكلون نسبة كبيرة من هؤلاء العاملين الأمر الذي يعرضهم بشكل أكبر للاستغلال وعدم المساواة.
في أوروبا، برزت فرنسا كنموذج مهم من خلال إقرارها قانون "الحق في قطع الاتصال" عام 2017، الذي يمنح الموظفين الحق في عدم الرد على الرسائل أو المكالمات المتعلقة بالعمل خارج ساعات الدوام الرسمي. وقد جاء هذا التشريع بهدف حماية التوازن بين الحياة العملية والشخصية، خاصة في ظل تزايد حالات الإرهاق المهني المرتبطة بالاستخدام المفرط للتكنولوجيا. يُلزم القانون الشركات التي تضم أكثر من 50 موظفًا بتحديد أوقات لا يُتوقع فيها من الموظفين الرد على رسائل العمل، مثل عطلات نهاية الأسبوع. ومع ذلك، لا ينص القانون على عقوبات محددة في حالة عدم الامتثال، مما قد يُضعف فعاليته في بعض الحالات. كما اتخذت ألمانيا خطوات مماثلة من خلال تعزيز ثقافة العمل المرن، حيث تشجع الشركات على تبني سياسات تراعي التوازن بين العمل والحياة الشخصية حيث تُقدّم العديد من الشركات الألمانية خيارات العمل عن بُعد، وساعات العمل المرنة، وإجازات سخية لتعزيز رفاهية الموظفين. على سبيل المثال، تتيح بعض الشركات للموظفين العمل من المنزل يومين في الأسبوع، مما يوفر لهم مرونة أكبر في تنظيم وقتهم. وفي الدول الاسكندنافية، التي طالما عُرفت بسياساتها الاجتماعية المتقدمة وتُعتبر نموذجًا في دمج التحول الرقمي ضمن استراتيجيات الحماية العمالية، تُركّز هذه الدول على تطوير المهارات الرقمية الأساسية كشرط للمشاركة الفعّالة في سوق العمل والمجتمع مما يضمن عدم استبعاد أي فرد من فرص التنمية الرقمية.
أما في آسيا فقد استطاعت سنغافورة وكوريا الجنوبية التقدم بشكل ملحوظ في وضع الأطر القانونية والتنظيمية التي تنظم العلاقة بين العامل والمنصة الرقمية ففي سنغافورة تم إطلاق مبادرة وطنية لتدريب العاملين المستقلين وتمكينهم من المهارات الرقمية ودمجهم ضمن منظومة الحماية الاجتماعية فيما شرعت كوريا الجنوبية في تنظيم عقود العمل المرن ومنح العاملين في اقتصاد المهام حقوقاً أساسية منها الحق في الحد الأدنى للأجور والتغطية التأمينية وقد ساهمت هذه السياسات في رفع ثقة المواطنين في العمل الرقمي وخلق بيئة أكثر استقراراً للعمال.
وفي إفريقيا وبرغم التحديات التنموية الهائلة التي تواجهها القارة فإن كينيا شكلت تجربة ملهمة في تنظيم عمل مشرفي المحتوى الرقمي حيث تم تأسيس تحالف نقابي عالمي بدعم من منظمات دولية للدفاع عن حقوق هؤلاء العاملين الذين يتعرضون لضغوط نفسية ومهنية شديدة بسبب طبيعة المحتوى الذي يتعاملون معه وقد أدى هذا الحراك إلى رفع الوعي العالمي بأهمية الاعتراف بالعمل الرقمي كمهنة تستحق الحماية القانونية والرعاية الصحية.
وفي العالم العربي فإن الحاجة إلى تطوير تشريعات تنظم العمل الرقمي أصبحت أكثر إلحاحاً مع ازدياد البطالة بين الشباب وهو ما يجعل العمل الرقمي أحد البدائل المتاحة ولكن من دون إطار قانوني واضح قد يتحول هذا البديل إلى فخ جديد يعمق الهشاشة ويكرس الفوارق الاجتماعية لذلك فإن بناء استراتيجية رقمية عادلة يتطلب تضافر جهود الحكومات والنقابات والمجتمع المدني لضمان إدماج جميع الفئات في التنمية الرقمية دون تمييز أو تهميش.
إن مفهوم العدالة الرقمية لا يقتصر فقط على تأمين البنية التحتية الرقمية أو توفير فرص العمل عن بعد بل يشمل أيضاً ضمان حق العامل في التفاوض الجماعي وشفافية الخوارزميات التي تحكم طبيعة عمله وتقييم أدائه كما يشمل حقه في الخصوصية الرقمية وفي الحصول على تدريب مستمر يؤهله لمواكبة التغيرات التقنية المتسارعة ويستدعي ذلك إعادة النظر في دور الدولة ومؤسساتها الرقابية لتتحول من مراقب سلبي إلى فاعل حقيقي في حماية حقوق المواطنين في الفضاء الرقمي.
على صعيد السياسات الدولية فقد دعت منظمة العمل الدولية ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى ضرورة إنشاء إطار عالمي ينظم اقتصاد المنصات الرقمية ويوفر ضمانات عادلة للعاملين فيه وقد طُرحت مبادرات لصياغة ميثاق رقمي عالمي يضمن حقوق العامل الرقمي بما يشمل الحق في الشفافية والبيانات والضمان الاجتماعي والنقابات الرقمية وهو اتجاه يؤكد أن العدالة الرقمية أصبحت جزءاً لا يتجزأ من العدالة الاجتماعية في القرن الحادي والعشرين.
في النهاية لا يمكن الحديث عن التحول الرقمي دون التطرق إلى أثره على الإنسان والعامل على وجه الخصوص فالتحول الحقيقي لا يقاس فقط بعدد الأجهزة المتصلة ولا بسرعة الإنترنت بل بمدى قدرة هذا التحول على تحسين جودة الحياة وتعزيز الكرامة الإنسانية وضمان حقوق الجميع في هذا الفضاء الجديد وإذا أردنا مستقبلاً عادلاً ومزدهراً فلا بد من الاستثمار في الإنسان أولاً وتمكينه من أدوات العصر دون المساس بحقوقه الأساسية.








