إعادة هندسة التوازنات في الشرق الأوسط (صراع المصالح وإعادة تعريف الأدوار).

{clean_title}
الشريط الإخباري :  

بقلم: منصور البواريد

هذه ورقة تحليلية استراتيجية 
حول الاجتماع الثلاثي بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وقيادات دول الخليج، والرئيس السوري أحمد الشرع.
،،،

في لحظة حاسمة، اجتمع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بولي عهد المملكة العربية السعودية والرئيس السوري أحمد الشرع في الرياض، وخرج اللقاء بمخرجات استراتيجية أعادت ترتيب التوازنات الإقليمية، وأطلقت مؤشرات واضحة على بدء مرحلة جديدة من التعامل مع دمشق. إعلان رفع العقوبات عن سوريا لم يكن مجرد مبادرة رمزية، بل إشارة ضمنية إلى أن واشنطن ترى في النظام السوري ورقة قابلة لإعادة التدوير، وإعادة دمجه في النظام الإقليمي والعربي، شريطة أن يكون ذلك تحت شروط أمريكية خليجية تضمن ضبط السلوك الإيراني، واحتواء النفوذ الروسي، وفتح نوافذ استثمارية جديدة تتناغم مع مصالح رأس المال الخليجي والدولي.
في هذا السياق، لا تبدو وسيلة الوصول إلى السلطة هي معيار القبول الدولي أو الإقليمي، سواء أكانت عبر انتخابات ديمقراطية، أو عبر ثورات، أو بانقلابات مدنية أو عسكرية.. المهم لدى القوى الكبرى هو مدى استعدادك للدخول في معادلة حماية المصالح، لا رفع الشعارات. إن قبلت، فستُفتح لك الأبواب، ويُعاد تأهيلك، وتُدافع عنك العواصم الكبرى. وإن رفضت، فستُحاصر، وتُنسى، وتُستنزف.
من هذا المنظور، لم يكن قرار أحمد الشرع بالمشاركة في اللقاء الثلاثي خيانة، بل قراءة دقيقة لواقع يتجاوز الأمنيات. فالرجل القادم من سنوات حرب وخراب، يعرف أنَّ شعبه لا يريد انتصارًا أيديولوجيًّا، بل فرصة للنجاة والتنفس من رماد المأساة. اختار أن يدافع عن مصلحة بلاده لا في مواجهة الجميع، بل من خلال إعادة التموضع الذكي، وتقديم نفسه كشريك قابل للتفاهم في صفقة كبرى تعيد إنتاج الاستقرار على الطريقة الأمريكية الخليجية.
ومن هنا، تُطرح إشكالية مركزية، ألا وهي: كيف ستُعيد إيران تقييم نهجها في الشرق الأوسط؟ وهل ستبقى متمسكة بأدوات النفوذ التقليدية القائمة على الوكلاء والتهديد، أم ستنخرط في لحظة التحول نحو مقاربات أكثر مرونة واتزانًا؟
بالنسبة لطهران، فإنَّ هذا التحول ليس ظرفيًّا، بل يفرض عليها ضرورة إعادة تقييم نهجها برمته في الشرق الأوسط. الرهان على دعم الحلفاء من خلال ميليشيات لا تنضوي تحت سيادة واضحة، وتحويل النفوذ إلى صيغة تهديد دائم، أصبح مصدر قلق حتى عند الأصدقاء قبل الخصوم. 
في سوريا، تحول الحضور الإيراني من كونه حليفًا استراتيجيًّا إلى عبء سياسي وأمني، خاصة في الجنوب السوري حيث باتت إسرائيل، بدعم أمريكي ضمني، اللاعب الأمني الأهم، وتراجعت قدرة طهران على المناورة لصالح تفاهمات روسية إسرائيلية تُدار بهدوء، لكنها فعالة على الأرض.
مع ذلك، فإنَّ الولايات المتحدة لا تسعى إلى إنهاء النفوذ الإيراني في سوريا بشكل كامل، بل إلى تنظيمه، وتحديد مستوياته، واستخدامه كأداة توازن مرن. فمن مصلحة واشنطن الإبقاء على "إيران الممكن السيطرة عليها" لتضغط من خلالها على دمشق حينًا، أو لترفع مستوى التهديد أمام الخليج حينًا آخر، أو لتمنح إسرائيل ذريعة دائمة للانخراط في المعادلة. هذا التوظيف البراغماتي للوجود الإيراني يجعل من واشنطن مديرًا للصراع لا وسيطًا لحله.

في هذا المشهد المتعدد الأقطاب، لا تبدو زيارة ترامب للإمارات خطوة بروتوكولية، بل انعكاسًا لمنطق الصفقات الذي يحكم عقله السياسي. فالإمارات، التي أتقنت في السنوات الأخيرة فن التوازن بين الضدين، تدرك أنَّ التحول لا يُصنع بالصوت المرتفع، بل بذكاء التموضع ومرونة المصالح. فمصالحها في احتواء إيران لا تقوم على العداء المكشوف، بل على تقليم مخالبها عبر اقتصاد مفتوح وعلاقات استخباراتية هادئة، تحفظ الحد الأدنى من الاستقرار دون الانزلاق إلى فوضى شاملة. ترامب، من جهته، لا يسعى لتحطيم طهران، بل لترويضها داخل مسرح محسوب يتيح له ابتزاز الحلفاء وبيع الحماية مرارًا. من هنا، يصبح اللقاء امتدادًا لاتفاق غير معلن: واشنطن تُمسك بالخيوط، وأبو ظبي تنسج منها خريطة نفوذ متداخلة في الموانئ، والطاقة، والتكنولوجيا، ومراكز القرار في القرن الإفريقي. والملاحَظ أنَّ هذا التعاون، وإن لم يُعلن، يتقاطع في خلفيته مع تنسيق أمني ثلاثي بين الإمارات، وإسرائيل، والولايات المتحدة، هدفه ضبط الإيقاع الإيراني لا تفجيره، وبناء جدار ردع ناعم يحاصر طهران داخل حدود القوة القابلة للإدارة. وفي هذا الترتيب، لا يعود العدو عدوًا، بل ضرورة استراتيجية تُستخدم لقياس الولاء، وتحفيز الصفقات، وإعادة تعريف التهديد بطريقة تخدم من يصنع الخوف لا من يخشاه.
تركيا، من جهتها، تراقب تحولات اللحظة بقلق مشوب بالحذر. فهي تدرك أنَّ كل تغيير في المعادلة السورية له انعكاسات مباشرة على أمنها القومي، لا سيما في ملف الأكراد الذي لا يزال خطًا أحمر ثابتًا في العقيدة الاستراتيجية التركية. أنقرة، التي أعادت التموضع بين موسكو وواشنطن على وقع البراغماتية السياسية، تنظر إلى انفتاح الخليج على دمشق بعين الريبة، لأنَّها تخشى أن يُنتج ذلك توافقًا سوريًّا خليجيًّا يشرعن التقارب مع الأكراد كجزء من صفقة استقرار طويلة الأمد. لذلك، فإنَّ تركيا تميل إلى مقاربة مزدوجة، وهي: دعم مشروط لعودة سوريا إلى الحضن العربي، مقابل ضمانات أمنية قاطعة حول عدم استخدام الورقة الكردية في أي تسوية قادمة.
أما الأكراد، فقد وجدوا أنفسهم عالقين بين الجغرافيا والصفقات. تخلي واشنطن التدريجي عن رعاية مشروعهم السياسي، والتقارب التركي الروسي، والانفتاح الخليجي على دمشق، كلها مؤشرات إلى أنَّ المشروع الكردي بات معزولًا استراتيجيًّا. وفي الوقت الذي يدرك فيه الأكراد أنَّ السلاح لم يعد يكفي لصناعة الدولة، فإنَّهم في المقابل لم ينجحوا في بناء حلفاء يمكن التعويل عليهم في لحظة الاصطفاف الكبير، وقد يكون من مصلحتهم اليوم التحول من مشروع كيان مستقل إلى قوة سياسية تفاوضية منخرطة في ترتيبات سوريا ما بعد الحرب.
وسط هذا الزخم المتداخل، يُعاد اكتشاف الأردن ليس كدولة على الهامش، بل كمحور إقليمي قادر على إعادة ضبط التوازنات من بوابة الأمن والاستقرار. فالموقع الجيوسياسي للمملكة، والتماس الحدودي مع الجنوب السوري، والعلاقة المتينة مع الخليج، والتنسيق العميق مع واشنطن، تضعها في قلب اللحظة. فالأردن يدرك أنَّ دوره لا يجب أن يبقى مقتصرًا على الوساطة، بل عليه أن يتحول إلى شريك في صناعة المستقبل السوري، من خلال المساهمة في إعادة الإعمار، وضبط الحدود، ومحاربة التهريب، وطرح نفسه كمركز لوجستي واقتصادي يربط بين الخليج وسوريا وتركيا. كما أنَّ على عمَّان أن تدرك أنَّ الفرصة لن تُمنح تلقائيًّا، بل يجب انتزاعها بدبلوماسية أكثر حضورًا، واستراتيجية مبنية على المصالح لا المخاوف فقط.
تاريخيًّا، كان الأردن لاعبًا هادئًا لكنه شديد التأثير في معادلات الإقليم، يستمد بصيرته وحنكته من مدرسة جلالة الملك عبد الله الثاني، حفظه الله ورعاه، التي جمعت بين الحكمة السياسية والدهاء الدبلوماسي والاتزان الاستراتيجي، ما مكنه من حماية مصالح بلاده بثبات، ومراكمة نفوذ هادئ في لحظات التحول والتصدع، لكنه الأردن اليوم مدعو لأن يكون مبادرًا، خاصة أنَّ لحظة إعادة تشكيل النظام الإقليمي قد لا تتكرر قريبًا. وأمام تصاعد التنافس بين المحاور الكبرى، وعودة روسيا لتقليص انخراطها بفعل الاستنزاف الأوكراني، وصعود الصين كقوة اقتصادية أكثر منها سياسية، يصبح من الضروري أن يُعاد إنتاج الهوية الإقليمية للأردن كفاعل مسؤول، حريص على الاستقرار، لكنه واعٍ لمصالحه الاستراتيجية على المدى البعيد. 
إيران، من جانبها، مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى أن تتحول من قوة اضطراب إلى قوة توازن، وأن تعيد النظر في أدوات نفوذها، عبر تخفيض كلفة تدخلها العسكري، والانتقال إلى دبلوماسية اقتصادية واستثمارية في الإقليم. فاللحظة الإقليمية الجديدة لا تصنعها المدافع، بل تصنعها شبكات الطاقة، والموانئ، وخطوط التجارة العابرة للحدود، وهنا تحديدًا تكمن فرص طهران إن أرادت فعلًا الحفاظ على نفوذها بطريقة مستدامة.
الزيارة الأخيرة لترامب إلى قطر والسعودية، وأخيرًا إلى الإمارات، ولقائه مع أحمد الشرع وولي العهد السعودي، كشفت أنَّ اللعبة لم تعد تُدار بثنائية "الشرعية والمعارضة"، بل باتت تُدار بمنطق الاستعداد للدخول في صفقة إقليمية أكبر، تعيد توجيه بوصلة المنطقة بعيدًا عن محور العداء المطلق، وقريبًا من براغماتية المصالح المتقاطعة. والولايات المتحدة، رغم كل التوترات، لا تزال المخرج الضروري لتسوية تعيد رسم خارطة النفوذ، لكنها لا تلغي أحدًا، بل تعيد توزيع الأدوار.
وبين التوازنات الكبرى، تبرز الحاجة إلى عقل سياسي إقليمي لا تحركه الانتماءات، بل يقوده المنطق، ويستند إلى الواقع لا إلى الأوهام. ومن ينجح في فهم هذهِ اللحظة وتحويلها إلى فرصة، لن يكتفي بالمراقبة من الخارج، بل سيكون شريكًا في هندسة ما بعد الفوضى.

© جميع الحقوق محفوظة لوكالة الشريط الإخبارية 2024
تصميم و تطوير
Update cookies preferences