«سترة مش واقية»…
سعيد ابو معلا
بمجرد دخولك مقر مؤسسة «فلسطينيات» في مدينة رام الله قبل دقائق من فعالية معرض صور وعرض فيلم «سترة مش واقية»، تطالعك على المدخل لوحة بيضاء كبيرة تضم قائمة بأسماء الصحافيين الفلسطينيين الشهداء في قطاع غزة، غير أن المؤلم جدا هو أن هناك مساحة بيضاء أسفل اللوح الأبيض الكبير.
اللوح الكبير ترك فيه مساحة صغيرة بيضاء كي تضاف إليها الأسماء الجديدة من الشهداء، ترك فيه رقم 229 فارغا، فيما كتب في خانة الرقم 230 كلمتي «الإبادة مستمرة»، لكن قبل أن يتم افتتاح الفعالية سقط شهيدان في صفوف الصحافيين، حيث كتبت أسماءهما بخط اليد، وهما الصحافي نور الدين عبدو، والصحافي يحيى صبيح.
بالنسبة لكل الصحافيين فإن فكرة القبول بهذا الأمر مؤلمة وموجعة، أما فيما يخص الصحافيين في غزة فتعني أن احتمالات أن يكون أي واحد منهم شهيدا فكرة واردة ومقبولة، أي أن مزيدا من أسماء الصحافيين الشهداء ستكتب، وكإنها مسألة سلم العالم بها.
وبعد أيام من فعالية عرض «مش سترة واقية» والمعرض المرافق له وهو المخصص للصحافيات الفلسطينيات اللواتي سقطن شهيدات في القطاع، سقط مزيد من الصحافيين الشهداء، كان أبرزهم الشهيد حسن أصليح الذي استهدفته طائرات الاحتلال وهو على سرير الشفاء داخل مستشفى بخانيونس.
عكست عملية اغتيال أصليح من خلال ملاحقته بطائرة إسرائيليّة هجوميّة مُسيّرة بينما كان يتلقى العلاج من إصابته السابقة في نيسان/أبريل الماضي، الحدث الأكثر دلالة وإجرامية ووحشية، لقد تم تنفيذ عملية الاغتيال في الساعات الأولى من فجر الثلاثاء 13 مايو/أيّار 2025، حين كان يتلقى العلاج في قسم الحروق بمجمع ناصر الطبي بخانيونس، إثر إصابة خطيرة تعرض لها قبل شهر عندما قصف الجيش الإسرائيلي خيمة صحافيين قرب المستشفى.
وحسب زملاء أصليح، فإن استهدافه داخل المستشفى لم يكن حدثًا عشوائيًا بل عملية اغتيال مخططة، حيث تتبّع جيش الاحتلال الإسرائيلي موقع أصليح خلال علاجه واستهدفه عمدًا داخل منشأة طبيّة. وأظهرت صور ومقاطع فيديو دمارًا كبيرًا في قسم الحروق بمستشفى ناصر، جرّاء اغتيال الصحافي حسن أصليح الذي كان على سرير العلاج.
ويعدُّ حسن أصليح أحد أبرز المراسلين الميدانيين في قطاع غزة خلال السنوات الأخيرة. بدأ مسيرته الصحافية منذ عام 2009، وعمل مصورًا صحافيًا وناشطًا إعلاميًا يغطي التطورات الميدانية، خصوصًا في جنوبي قطاع غزة.
لقد اشتهر أصليح بسرعة نقله للأخبار العاجلة وتوثيق معاناة المدنيين تحت الحصار والقصف الإسرائيلي، ما جعله مصدرًا موثوقًا للمعلومات، وقد أطلق قناة إخبارية عبر تطبيق تليغرام يتابعها مئات الآلاف، كان ينشر عبرها التحديثات الميدانية أولًا بأول. وبفضل جرأته في الميدان حظي باحترام واسع في الأوساط الصحافية الفلسطينية، حتى وُصف بأنه «أيقونة إعلامية فلسطينية» برزت في مواجهة حرب الإبادة المستمرّة.
وحاول جيش الاحتلال الإسرائيلي تبرير القصف بالزّعم أنه استهدف «مركز قيادة لحماس داخل المستشفى»، وأصليح ذاته لم يكن بمعزل عن حملة تحريض إسرائيلية سبقت استهدافه بفترة. فخلال الأشهر الماضية، واجه تحريضًا علنيًا واتهامات عبر منصات إعلامية ورقمية إسرائيلية. وعلى إثر هذه المزاعم، تعرض لضغوط شديدة؛ فقطعت وكالتا CNN وأسوشييتد برس التعاون معه كمراسل حرّ.
وبلغ التحريض الإسرائيلي الرسمي ذروته ضدّه بإصدار الناطق باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي أفيخاي أدرعي تصريحًا في 10 نيسان/أبريل 2025، عقب محاولة الاغتيال الأولى التي أصيب فيها واتهم فيها أصليح بأنه «عنصر في لواء خانيونس التابع لحماس» وشارك في عملية «طوفان الأقصى»، وقد وفّرت هذه المزاعم غطاءً لتبرير استهدافه عسكريًا.
لقد كسرت عملية اغتيال أصليح «قلب» المجموعة الصحافية في قطاع غزة والضفة الغربية، وكسرت قلب كل من كان يعرفه، فعملية الاغتيال حملت رسائل كثيرة للصحافيين ليس أبرزها أن الإجرام الإسرائيلي لا حد له، وهو يستهدف الصحافيين ويعدمهم بأحدث الأسلحة، يفعل ذلك مثلما يفعله في الميدان يفعله على أسرة الشفاء وداخل المستشفيات.
ثلاث صحافيات
وبالعودة إلى فيلم «سترة مش واقية» الذي عملت على إنتاجه مؤسسة «فلسطينيات» نجده يقدم قصص ثلاث صحافيات من القطاع إلى جانب صحافي رابع، وهم: شروق شاهين، مريم أبو دقة، شروق العيلة، وفايز قريقع.
الفيلم يمتاز بحس عفوي نادر، فقد تم تصويره من دون مونتاج كامل ودقيق، حيث حمل جانبا من ظروف وتفاصيل التصوير مثل أصوات الطائرات والقصف، وتوترات الصحافيين، وحراك المواطنين المهجرين في محيط مكان التصوير.
تظهر شروق شاهين، مراسلة التلفزيون السوري، في محاولة الإجابة على سؤال: ماذا فقدت في الحرب؟ وفي الأثناء تصمت، وتبدي مخاوفها من أصوات الطائرات الحربية المحلقة في السماء، إنها جانب من تفاصيل اليوم العادي في القطاع، وهي تلاحقهم في لحظة توثيق لواقعهم ومشاعرهم.
تقول شاهين: «فقدان الكثير… بيتي، وطني الثاني، لقد تم استهدافه ببداية الحرب».
وتكمل: «عدنا للشمال بعد التهجير، ومن ثم صلحنا المنزل للعيش بداخلة رغم صعوبة الحياة فيه».
وفي شهادتها في الفيلم تؤكد أنها فقدت الإحساس بالأمن، «فالاحتلال يستهدف كل شيء».
أما ردا على سؤال: أصعب المواقف، فتؤكد أنها كانت داخل مستشفى شهداء الأقصى، عندما قام الاحتلال باستهداف المستشفى وهي نائمة بداخله بفعل تأخر عملية التغطية الصحافية.
وتكمل: «اندلع حريق داخل المستشفى، عائلات احترقت وكنت شاهدة على الحدث. نجوت من محرقة. قررت ألا أنام داخل المستشفى بعد هذا الحدث».
«بطلت أخاف على حالي»
أما الصحافية مريم أبو دقة، فهي تعمل مراسلة لصحيفة «اندبندت عربية»، لقد أفقدها العدوان على غزة أمها، التي «فقدت حياتي بعدها» كما أنها دفعت بها إلى تسفير ابنها غيث خارج غزة، معتبرة أن هذا الأمر «أصعب حدث بحياتي. حياتي كانت معلقة بأبني وأمي».
وتضيف: «بالنسبة لأمي هي التي كانت تتفقدني أثناء تغطيتي وعملي في كل الحروب وبشكل يومي. كانت تخاف علي كثيرا، بعد وفاتها بطلت أخاف على حالي. من كان يخاف علي راح».
تتحدث عن أثر المهنة بعلاقتها بابنها: «كل يوم كنت أصور أطفالا شهداء، كثيرا ما تخيلت أن ابني غيث بينهم، عمرة 12 عاما، كان صغيرا على السفر، لقد خفت أن يستشهد».
وحول صعوبات العمل الصحافي فتشدد أنها كانت تعتقد أن الحدث الذي مرت به هو الأكثر صعوبة، لتكتشف بعدها أن هناك ما هو أكثر صعوبة منه، «الحدث الأصعب لم نره بعد».
وتروي لحظة نزوح عائلتها واستهدافهم بأحزمة نارية وتؤكد انه الحدث الذي لا يمكن نسيانه، «لقد كانت صدمة العائلة أن طلع عليهم النهار من غزارة النيران التي أطلقت عليهم واستهدفتهم».
وأثناء تغطيتها تقول أبو دقة: «الأصعب أيضا هو رؤية أم فقدت أبنها، أنا أم وأعرف المشاعر، لقد رأيت أما أنجبت طفلا بعد أكثر من 12 عاما من الانتظار لكنه استشهد، بكيت كثيرا أثناء تغطية القصة، بكيت، وضعت الكاميرا على عيني موهمة الناس أنني أصور، وفي الحقيقة كنت أبكي، هذه الأم عمري ما بنساها».
الأصعب استشهاد زوجي
أما شروق العيلة، مخرجة أفلام، وهي زوجة الشهيد الصحافي رشدي السراج، الذي استشهد في ثاني أسبوع من الإبادة،
فتتحدث عن زوجها بحرقة الذي تصفه بإنه «شخص لا يتكرر ولا يعوض».
وأضافت، وهي الفائزة بجائزة حرية الصحافة العالمية من لجنة حماية الصحافيين عام 2024 عن تغطيتها الحرب في غزة، «لقد فقدنا أصدقاء كثر مثل محمود السراج وإبراهيم لافي.. كما انقطع الاتصال مع نضال الوحيدي وهيثم عبد الواحد…الخ».
أما أصعب المواقف التي مرت عليها خلال الحرب فتقول: «عدم مقدرتي على إسعاف شخص كان الأصعب، لقد كان زوجي، كانت الإصابة في رأسه، لقد رفض الإسعاف الوصول للمنطقة التي تم قصفها حيث كانت تتعرض لحزام ناري مستمر ومتواصل، زوجي أصيب في رأسه، كان يموت أمامي. اتصلت مع اخي الطبيب ووصفت له حالته، وكان رده: لا شيء يمكن فعله، احملوه وامشوا به للمستشفى».
تكمل: «لقد حملناه، الحزام الناري كان على جانبي الشارع، وصلنا المستشفى بعد زمن، من ثم استشهد رشدي».
الأصعب أن تكون الحدث
ويعرض الفيلم الوثائقي (45 دقيقة) جانبا من حكاية الصحافي فايز قريقع، وهو مصور صحافي فقد مكتبه وشركته الإعلامية مع بداية الحرب، إلى جانب عدد كبير من الأقارب في مجزرة المعمداني.
يقول: «فقدت زملاء صحافيين كثير منهم الصديق مصطفى ثريا، كما فقدت بيتي، الأهم أننا فقدنا غزة التي عشنا بها بحب».
وحول أصعب المواقف يقول قريقع: «كلما أكلت أشعر بطعم الدم، أشم رائحة الدم، أحسها في فمي عندما آكل بفعل المجازر التي شهدتها وقمت بتغطيتها».
ويتحدث عن اقتحام الجيش الاسرائيلي لمستشفى الشفاء: «الموقف بقلبي شيء كبير، لقد توجهت لدوار حيدر وجدت العديد من الجثث الملقاة على الأرض بعد إعدامهم. وجدت صبية لا تتجاوز 18 عاما فوق جثث الرجال وهي مكبلة اليدين، لقد أعدمت بطلق على رأسها ووضعت فوق الجثث».
ويكمل: «أنا صحافي.. أنا إنسان، وهؤلاء أبناء شعبي. لقد شعرت بالخذلان كثيرا».
ويكمل: «عند استهداف المستشفى المعمداني تفاجأت أن عائلتي كانت هناك، رميت الكاميرا ودخلت أعمدة اللهب، لقد وجدت الكثير من أفراد العائلة على الأرض شهداء، إنه الموقف الأصعب بحيث أصبحت أنا الحدث».
سأل معدو الفيلم الصحافيين عن رؤيتهم لأسباب استهدافهم من جيش الاحتلال، وكانت الإجابات تشدد على فكرة التعمد والقصدية بهدف طمس الحقيقة، ودحض الرواية الفلسطينية، والأهم إبعاد أعين العالم عما يحدث في قطاع غزة.
ويرى الصحافيون أن الصحافي المحلي في غزة هو «المصدر الأول والرئيس للمعلومات. في ظل غياب الصحافيين الأجانب. وبالتالي كانت جهود الصحافيين مهمة في كشف الدعاية الإسرائيلية». وأن الكاميرا الفلسطينية هي بمثابة «عين الخارج علينا» (غزة). وبالتالي «يتعمد الاحتلال الاستهداف كي لا يرى العالم ما يحدث في القطاع».
وحسب المصور قريقع فإن «الإعلام الدولي تركنا وحدنا»، وهو لا يخفي أن هناك «عتبا كبيرا على غيابه، لقد تم استهدافنا في كل تفاصيلنا. لو كان الإعلام الدولي موجودا لشعرنا بالونس. كما كان يمكن أن تتوفر بعض الحماية للصحافة المحلية».
أما الصحافية العيلة فتشعر بالألم من تراجع التغطية الدولية للقطاع، «لقد أصبحنا أرقاما.. إحصاءات. في حين أن الأرقام خلفها عائلات وأحلام وحياة».
وتؤكد أن هناك وسائل إعلام دولية تمنع استعمال مصطلح الإبادة. وتطالب بمقاطعة «أي وسيلة إعلامية لا تستخدم مصطلح الإبادة في وصف ما يجري في غزة».
وترى أن رسالتها الرئيسية للإعلام الدولي ومفادها «أن انتهاء الحرب أو وقفها لا يعني بالضرورة انتهاء التغطية الصحافية، فنحن أمام حرب البقاء والنجاة في ظل العيش في مدينة مدمرة وبلا منازل». وترى أن «كابوس الخيمة سيستمر لسنوات إلى حين الإعمار… سيعيش الغزي كابوس الحصول على مقومات الحياة، وهو أمر جزء من صراع وجودي إلى حين تحرير فلسطين».
اجتهدت الصحافيات في الإجابة على سؤال: «لماذا الاستمرار بالتغطية رغم الخوف من الموت؟»، حيث قالت
شروق شاهين قالت إنه «لا خيار إلا التغطية. كل الخيارات الأخرى غير مجدية.. هل أجلس إلى جانب عائلتي مثلا؟ هذا غير مجدي، نحن كصحافيين لدينا أمانة ونحن جزء من القضية. ويجب علينا الاستمرار بالتغطية».
وتساءلت: «من يغطي إذا لم نقم بالتغطية؟ وهذا لا يعني انه لم يأتني شعور الندم. نحن نتنقل من الموت للموت. لا مكان للأمان في غزة».
أما الصحافية الأم أبو دقة فرأت بعملها محاولة لاستمرار إيصال رسالة للعالم، «أنا أحب مهنتي. منذ وأنا صغيرة كنت أحب التصوير».
وتابعت: «كل ما تعرضت له جعلني أتعلق بالمهنة، أحيانا أقول: شو جابرني على المهنة. لكني لاحقا أتعلق بها أكثر، الحرب جعلتني متعلقة بالمهنة أكثر».
وتكمل في وصف هواجسها: «أوقات بقول بدي أرمي الكاميرا.. وبديش اشتغل. بدي أظل قاعد بالبيت. بعدها بقول لا. وبطلع من الدار للشغل».
أما الصحافية الأم شروق العيلة فتؤكد أن «الاستمرار بالعمل الصحافي في ظل الموت هو واجب أخلاقي أكثر بالنسبة لنا، هو واجب وطني أكثر من كونه مهنة. إنه أمر إلزامي طالما لدي القدرة والمهارة والجمهور».
تضيف: «أشعر أنني مجبرة، أنا أستثمر أي مهارة أو قدرة على إيصال رسالة شعبي، يجب أن أكون صحافيا واستمر في ذلك».
وتتابع: «في بعض الظروف ندمت على كوني صحافية، تحديدا عندما أخرج للتغطية وخلفي طفلة. شعور مقلق ومتعب. يصبح أصعب وأنا مش عارفة هل رح أرجع أم لا؟».
وبعد مشاهدة الفيلم بدقائقه المتعبة والتمعن بشهادات الصحافيات في غزة فإنه ينتابك شعور كبير بعدم الراحة، وتحديدا في ظل أن من وقفن أمام الكاميرا وقدمن جانبا من شهاداتهن، يكتمن الكثير من التفاصيل والوجع والألم، كله كان مختزنا داخلهن، حاولن إخفاءه بمهارة، لكن من يدقق بهن يدرك مقدار وجعهن المسكوت عنه. وهو ما يجعل من فيلم «سترة مش واقية» يخفي أكثر مما يقول، وهو محاولة جادة لتقديم وجع الصحافيات وواقعهن في القطاع في ظل حرب الإبادة.
ورأت وفاء عبد الرحمن، مدير مؤسسة «فلسطينيات»، أن المعرض والفيلم محاولة ورسالة من أجل حماية الصحافيين والصحافيات، لقد قدم شهادات وحيوات للصحافيات وللحياة التي يعيشونها تحت الإبادة.
وقالت لـ«القدس العربي»: وثقنا استشهاد 41 صحافية خلال الإبادة، إنه رقم كبير، الرقم رسالة للعالم للنظر لما يحدث للصحافيين، فيما وقف الإبادة هو المطلب الرئيسي من أجل أن يحيى وأن تستمر الصورة وأن تستمر في التوثيق ومحاسبة الاحتلال».
وتابعت: «للأسف السترة ليست فقط غير واقية، إنما جعلت من الاستهداف أكبر، غزة أكبر مقبرة للصحافيين».








