كيف جعلت الصين ممر التنمية لقناة السويس قاطرة لتصنيع مصر؟

{clean_title}
الشريط الإخباري :  

تحولت المنطقة الاقتصادية لقناة السويس منذ بداية العام الحالي إلى جسر تعبر عليه الصناعة المصرية من عصر الاكتفاء الذاتي وإحلال الواردات إلى عصر سلاسل القيمة العالمية والإنتاج من أجل التصدير. ومع أن السياسة الرسمية للدولة المصرية لا تزال تحبو في الأزقة الضيقة لصناعات إحلال الواردات، ومحاولة تخفيف العبء عن الميزان التجاري بتقليل الواردات، بما فيها مستلزمات ضرورية للإنتاج، فإن فتح أبواب المنطقة للمستثمرين الأجانب، أدى عمليا إلى تطبيق مناهج جديدة في عملية التصنيع الجارية في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس الممتدة من ميناء شرق بورسعيد شمالا إلى ميناء السخنة في الجنوب، وتصل مساحتها إلى حوالي 461 كم مربعا. وقد تعاقدت إدارة المنطقة خلال فترة الـ33 شهرا الماضية حتى الشهر الماضي على استثمارات أجنبية بقيمة 8.3 مليار دولار تغطي 272 مشروعا منها 262 مشروعا صناعيا، توفر أكثر من 40 ألف فرصة عمل. الأهم من ذلك هو الطفرة الحالية في عدد المشروعات تحت التنفيذ التي تبلغ 144 مشروعا، تتميز بالتنوع، مع وجود مشروعات عملاقة تتجاوز القيمة الاستثمارية للواحد منها المليار دولار. ومن أهم تلك المشروعات العملاقة التي بدأ العمل في إنشائها المجمع الصناعي المتكامل لشركة «شين فينغ مصر للصلب» في منطقة السخنة المتكاملة التابعة للهيئة الاقتصادية للقناة باستثمارات تبلغ 1.7 مليار دولار، ومشروع آخر لإنتاج زجاج ألواح الطاقة الشمسية والخلايا الكهروضوئية باستثمارات قيمتها مليار دولار، يعتبر الأكبر في أفريقيا. كما تتميز المشروعات الجديدة، بما فيها الصغيرة والمتوسطة باستخدام تكنولوجيا خضراء صديقة للبيئة، وارتباطها بسلاسل القيمة العالمية، ما يفتح الباب لربط حلقات الصناعات في مصر مع سلاسل القيمة العالمية، وإقامة قنوات اتصال فعالة مع ممرات التنمية الستة الرئيسية التي بدأت الصين في إنشائها منذ إطلاق مبادرة الطوق والطريق أو «الحزام والطريق»، التي تمتد من شرق آسيا إلى أوروبا وشرق المحيط الأطلنطي. ويتيح الموقع الاستراتيجي لممر التنمية على ضفتي القناة من شمالها إلى جنوبها سهولة الاتصال بين الممرات الأخرى، بحيث أصبحت جزءا عضويا من طريق الحرير البحري، الممتد من شرق الصين إلى غرب البحر المتوسط.
وتعتبر الاستثمارات الصينية في ممر التنمية حول قناة السويس هي العمود الفقري لكل الأنشطة الاستراتيجية هناك ذات الأثر طويل المدى. وهي تحتل بلا منازع المركز الأول في قائمة المستثمرين الأجانب في المنطقة. حتى نهاية العام الماضي بلغت قيمة الاستثمارات الأجنبية في الممر حوالي 8 مليارات دولار، ويبلغ نصيب الاستثمارات الصناعية منها 60 في المئة تقريبا. ومن المتوقع أن تكون القيمة التعاقدية للاستثمارات في العام الحالي قد زادت، خصوصا في مجالات الصناعات التحويلية، التي تشمل الكيميائيات، والأقمشة والملابس، وقطع غيار السيارات، ومستلزمات صناعات الطاقة المتجددة، والصباغة، والأجهزة الكهربائية المنزلية. كما تنتشر الاستثمارات الصينية أيضا في مجالات الخدمات الرقمية وتكنولوجيا الأمن السيبراني والاتصالات والاستشعار عن بعد وتكنولوجيا الفضاء. ومن الملاحظ أن الشركات الصينية العاملة في مصر بعد أن دخلت سوق الاستثمار بحذر شديد، أصبحت الآن تتوسع باطمئنان في سوق واسعة، مستفيدة من توفر الأيدي العاملة الرخيصة والمواد الخام وتكلفة الأراضي المنخفضة إضافة إلى المزايا الضريبية والجمركية التي تتمتع بها الشركات العاملة في المنطقة باعتبارها منطقة اقتصادية خاصة تمنح مزايا كثيرة للمستثمرين. كما تستفيد الشركات العاملة داخل ممر التنمية من قرب أسواق مهمة في دول غرب آسيا والخليج والشرق الأوسط وأفريقيا وفي جنوب وشرق أوروبا، خصوصا وأن مصر ترتبط مع معظم هذه الدول باتفاقيات تجارية تفضيلية.
وبعد الضربة التي تعرض لها النظام التجاري العالمي أخيرا، من وراء سياسة التعريفات الجمركية التي يتبناها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فقد أدركت الصين ودول أخرى أنه يتعين عليها توزيع صناعاتها حول العالم لتجنب العقوبات التجارية، والاستفادة من المزايا التي تتوفر لبعض البلدان مثل مصر، التي تعاني من عجز في ميزانها التجاري مع الولايات المتحدة. وقد لاحظنا أن شركات من كوريا الجنوبية ومن تايلاند قد لجأت أخيرا إلى اقامة استثمارات جديدة في ممر التنمية حول قناة السويس. في هذا الاتجاه بدأت شركة «هاي تك-شمال أفريقيا» للملابس الرياضية، بناء مصنع باستثمارات إجمالية تبلغ 20 مليون دولار في القنطرة غرب، يمثل باكورة الاستثمارات الصناعية التايلاندية في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس. المشروع طبقا لبيانات الهيئة الاقتصادية للقناة يتيح نحو 2000 فرصة عمل مباشرة، ويستهدف عند التشغيل الكامل مطلع العام المقبل إنتاج 6 ملايين قطعة ملابس رياضية سنويا، لتلبية احتياجات الأسواق العالمية خاصة أوروبا وأمريكا. ويرتبط هذا المشروع بمصانع الشركة التايلاندية المنتشرة في عدد من بلدان جنوب شرق آسيا منها كمبوديا وفيتنام، ما يعني أن مصر ستصبح جزءا من سلسلة القيمة العالمية التي توفر لكل أسواق العالم ماركات رياضية واسعة الانتشار. وتجدر الإشارة إلى أن شركة هاي تك-تايلاند العالمية هي إحدى الشركات العالمية الرائدة في مجال صناعة الملابس الرياضية لصالح الماركات العالمية والصانع الرئيسي لمنتجات الملابس الرياضية لشركتي «Nike – Jordan» الأمريكتين، من خلال تواجدها في 4 دول حول العالم.

أهمية دخول سلاسل القيمة

يعتبر مجمع الصناعات المعدنية لشركة «شين فينغ مصر للصلب» في منطقة السخنة المتكاملة الذي تبلغ قيمته الاستثمارية 1.7 مليار دولار، الجاري العمل في مرحلته الأولى، نموذجا للمشاريع الصناعية العملاقة التي تضع الصناعة في مصر على خريطة صناعة السيارات في العالم. مصانع هذه الشركة لن تعمل بمنطق «إنتاج سيارة وطنية» بطريقة «التجميع» العقيمة، وإنما تعمل كحلقة من حلقات سلاسل إنتاج عالمية لمكونات صناعة السيارات في العالم ككل. وحسب بيان صادر عن الهيئة العامة للمنطقة الاقتصادية لقناة السويس، فإن المشروع يضم في مرحلتيه 9 مصانع متنوعة يجري تنفيذها على مدى زمني 5 سنوات بالإضافة لمركزين للخدمات الشاملة، أحدهما للبحث والتطوير، والآخر لإعادة تدوير النفايات الصلبة. وتضم المرحلة الأولى للمشروع 4 مصانع، واحد لصناعة مكونات أقراص فرامل السيارات، والثاني لإنتاج مكونات الأجهزة المنزلية، والثالث لإنتاج المثبتات المعدنية مثل المسامير والصواميل، أما الرابع فينتج لفائف الصلب المدرفلة على الساخن. وفي المرحلة الثانية يتم إنشاء 5 مصانع، الأول لإنتاج مكونات السيارات المصنوعة من سبائك الألومنيوم والمغنيسيوم، والثاني لإنتاج معدات الهيكل المعدني الصلب، والثالث لإنتاج مكونات طبلة فرامل السيارات، والرابع لإنتاج مكونات آلات البناء، أما المصنع الخامس فإنه مخصص لإنتاج لفائف الصلب المدرفلة على البارد. ومن السهل ملاحظة أن منتجات مجمع الصناعات المعدنية تندرج تحت تصنيف مستلزمات الإنتاج والسلع الوسيطة التي تشتريها المصانع الأخرى، وليس المنتجات النهائية التي يشتريها المستهلك من السوق. هذا يعني أن المجمع منذ اليوم الأول للإنتاج سيكون جزءا من سلاسل إنتاج عالمية، وتكون علاقته بها هي علاقة طويلة الأجل، ما يضمن استمراره وتوسعه، في صناعة السيارات وصناعات الأجهزة المنزلية.
مثال آخر للمشروعات الصناعية الصينية تحت الإنشاء في ممر التنمية هو المشروع الذي تقيمه مجموعة «بيفار الصناعية الصينية» المتخصصة في صناعات الكيميائيات، وذلك لإنتاج الكلور القلوي الأخضر بالمنطقة الصناعية بالسخنة، بإجمالي استثمارات تبلغ 500 مليون دولار. المشروع يتم تنفيذه على مرحلتين بمساحة 200 ألف متر مربع لكل مرحلة. وتبلغ تكلفة المرحلة الأولى 300 مليون دولار، والثانية 200 مليون دولار. ويهدف المصنع لإنتاج 100 ألف طن من الكلور القلوي ومنتجاته التكميلية، ويوفر نحو 800 فرصة عمل. ومن المقرر الانتهاء من أعمال الإنشاءات للمرحلة الأولى في النصف الثاني من العام المقبل.
ووصف وليد جمال الدين رئيس الهيئة الاقتصادية لقناة السويس هذا المشروع بأنه يُمثل خطوة فارقة على طريق التحول نحو اقتصاد صناعي مستدام، حيث يُعد أول منشأة كيميائية خضراء في مصر والعالم، تعتمد على الطاقة النظيفة في التشغيل. وأضاف أن المشروع لا يُعد مجرد منشأة صناعية، بل إنه منظومة متكاملة تلتزم بأعلى معايير الاستدامة البيئية واستراتيجية الاقتصاد الأخضر. وأضاف أن المشروع يُسهم في إحلال الواردات وخفض الفاتورة الاستيرادية، ويدعم الصناعات التكميلية في مصر، ويُعزز فرص التصدير للأسواق الإقليمية والدولية عبر الموانئ البحرية القريبة. كما يدخل المشروع ضمن منظومة صناعية أكبر تستهدف استخلاص المعادن من مياه البحر، مثل صناعة مادة البروم وغيرها من الصناعات الكيميائية. وتصدر «مجموعة بيفار الصناعية الصينية» منتجاتها إلى أكثر من 100 دولة، وتحتل المركز الأول في السوق الصينية في عدد من منتجات مستلزمات صناعات مثل المنظفات والأصباغ والصناعات الكيميائية.
وفي مجال سلاسل القيمة العالمية لصناعات معدات ومكونات الطاقة المتجددة تقيم شركة «سينجين نيو كيبينغ تكنولوجي» الصينية مصنعا ضخما لإنتاج زجاج ألواح الطاقة الشمسية في منطقة السخنة، باستثمارات تصل إلى 700 مليون دولار، على مرحلتين. كما تقوم شركة «إيليت سولار» الصينية بإنشاء مصنع متكامل لإنتاج الخلايا الشمسية الكهروضوئية، ومنظومة هندسية/تكنولوجية لإنتاج الطاقة في المنطقة نفسها، باستثمارات تُقدّر بـ150 مليون دولار، وهو ما يفتح الباب للتوسع عن طريق إقامة مجموعة متكاملة من المصانع العاملة في توفير مستلزمات أنظمة الطاقة الشمسية للسوق العالمية وليس للسوق المحلي فقط. مصنع «سينجين» الصيني هو أضخم مصنع لزجاج الألواح الشمسية في أفريقيا تصل طاقته الإنتاجية إلى أكثر من 1.5 مليون طن من الألواح، إضافة إلى أكثر من مليون طن من رمال السيليكا فائقة النقاء.
وطبقا لخطة عمل المصنع فإن الكثير من المواد الأولية مثل الرمال والأسلاك والغاز تتوفر في السوق المحلية. والصناعة المكملة لإنتاج زجاج الألواح هي صناعة خلايا الطاقة الشمسية، التي تجري إقامتها بواسطة شركة «إيليت سولار» ومن المتوقع ان تبدأ الإنتاج الفعلي في شهر ايلول/سبتمبر المقبل. ومن المتوقع أن يدفع المشروع الاقتصاد المحلي، ويساعد مصر على تحقيق هدفها في مجال الطاقة المتجددة بحلول عام 2030، المتمثل في رفع نسبة الطاقة المتجددة إلى 42 في المئة من إنتاج الطاقة. وقالت الشركة إن مشروعها في السخنة سيُحقق أثرا بيئيا يعادل تقليل انبعاثات الكربون الناتج عن زراعة 84 مليون شجرة سنويا، ما يُبرز الأهمية البيئية للمشروع بجانب أبعاده التكنولوجية والاقتصادية.

عجز السياسة الصناعية الرسمية

ورغم النجاح الذي تحققه مصر في جذب الاستثمارات الأجنبية إلى قطاعات الصناعات التحويلية، فإن صانعي السياسة الاقتصادية المحلية لم يتعلموا بعد من تجربة تطور الصناعات التحويلية في العالم، من مرحلة الاكتفاء الذاتي إلى التصدير، ومن الإنتاج الصغير إلى العولمة المتسعة الآفاق.
وتشير بيانات إعداد الخطة الاقتصادية والموازنة المالية للسنة المالية التي تبدأ اعتبارا من أول تموز/يوليو المقبل إلى استمرار الحكومة في التفكير بعقلية إحلال الواردات التي لم تنجح أبدا في مصر منذ تم الأخذ بها في ستينات القرن الماضي. وإضافة إلى ذلك فإن الحكومة تعاني أيضا من عجز شديد في القدرة على تمويل الاستثمارات الصناعية، الأمر الذي يؤكد الحاجة الجوهرية إلى الدور الذي يلعبه الاستثمار الأجنبي في التمويل. ومع أن الحكومة تزعم أن تراجعها عن الاستثمار في الصناعات التحويلية يعود إلى رغبتها في افساح المجال للقطاع الخاص، فإن مطاردتها لأهل الصناعة بمن فيهم أصحاب المشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر في مجالات مثل الصناعات الغذائية وتجارة التجزئة وإدارة محطات الوقود والكافيتريات، يُكَذِّب هذا الزعم. إضافة إلى ذلك فإن السياسة النقدية والمالية تفرض قيودا شديدة على الاستثمار الخاص، بدءا من العراقيل الإدارية إلى ارتفاع تكلفة التمويل، إضافة إلى القيود المفروضة على استيراد مستلزمات الإنتاج وتغيير القوانين واللوائح من يوم إلى آخر.
وتستهدف خطة الحكومة الحصول على استثمارات أجنبية لتمويل الصناعة بقيمة 3.5 مليار دولار، في حين أن القيمة الكلية للاستثمار العام في مشروع موازنة 2025/ 2026 تبلغ 1158 مليار جنيه مصري (حوالي 22.5 مليار دولار) تقريبا لتمويل الاستثمارات في الصناعات التحويلية. وينقسم هذا المبلغ إلى قسمين، 87 مليار جنيه لصناعة تكرير البترول و166 مليار جنيه للصناعات التحويلية غير البترولية. ومن الملاحظ حتى الآن أن المصدر الرئيسي الذاتي لتمويل الاستثمار المحلي في الممر الاقتصادي لقناة السويس يتمثل في إيرادات الموانئ (بنسبة 85 في المئة) وعلى رأسها ميناء شرق بورسعيد، أهم الموانئ التي تمد الهيئة الاقتصادية لقناة السويس بالإيرادات. وليس من المتوقع أن تنهض استثمارات القطاع الخاص بالدور اللازم في قطاعات الصناعات التحويلية. هذه البيانات تعني عمليا ان الاستثمار في تصنيع مصر قد وقع عمليا على كاهل المستثمرين الأجانب (غير العرب)، وأن مساهمة كل من الحكومة والقطاع الخاص تعجز عن توفير الاستثمارات الكافية وتتجه إلى تفضيل المقاولات والاستثمار العقاري. ونظرا لموقع مصر وأهميتها، ومواردها، وسوقها، وعلاقاتها بجيرانها، واتفاقيات التجارة التفضيلية التي تربطها بهم، فإن المستثمرين الأجانب، لن يكفوا عن محاولات البحث عن المزيد من الفرص في مصر. ومع ذلك فإن ما ينقص الصناعة المصرية حتى الآن هي أن تكون جزءا من سلاسل الإمدادات العالمية، وأن تصبح الصناعات المتوطنة في المناطق الاقتصادية الخاصة مفتوحة على السوق المحلي وعلى الصناعات المحلية لتأخذ بيدها من الاكتفاء الذاتي إلى التنافسية.

إبراهيم نوار

© جميع الحقوق محفوظة لوكالة الشريط الإخبارية 2024
تصميم و تطوير
Update cookies preferences