استقالة العقل العربي!
بعض المجتمعات تتقن ترويض العقل دون عنف تدفعه الى الاستقالة الطوعية عبر رسائل ناعمة تخبره ان التفكير رفاهية زائدة وان الشك لا يليق بالملتزمين وان الصمت اكثر هيبة حين تكون الحقيقة مزعجة
بهذه الطريقة خرج العقل العربي من المشهد لم يُطرد بل انسحب بهدوء محاطا بطقوس الاجماع وعباءة النصوص داخل مجتمعات تخشى السؤال وتقدس المعلومة اذا جاءت بصيغة مألوفة
المساجد ممتلئة الصلوات متدفقة الحناجر تهتف لكن شرارة الفكر غائبة وشجاعة السؤال موؤودة والعقل واقف خلف الزجاج ينتظر دعوة لم تصدر
الإشكال ليس في الايمان بل في انعدام التفكير في ما بعد الايمان وليس في الطقوس بل في غياب المنهج العقلي القادر على تأويلها وتجديد معناها
منذ قرون اختلط الصوت باليقين والنقل حل مكان النقد والفتوى حلت محل الفلسفة
صار من قال اهم من ماذا قيل وصار النص غاية لا وسيلة وصار التراث نصا مغلقا لا قابلا للتأويل
المدارس تزرع الطاعة الجامعات تكرس التكرار والاعلام يضخ رواية واحدة بلون واحد وبصوت واحد
النخبة اما غادرت او تماهت او سكتت
بعضها اختار السلامة على الحقيقة
وبعضها وجد في الاجماع منصة اكثر ربحا من الجدل
المؤسسات تخرج الافا من الشهادات
لكنها تعجز عن تخريج عقل حر واحد كل عام
لانها تهتم بالشكل لا الجوهر
وبالمعدل لا بالمسألة
وبالسيرة الذاتية لا بالسؤال الوجودي
النتيجة واقع مزدوج
إدانة علنية للغرب مع استهلاك يومي له
هتاف ضد الاحتلال مع عجز عن تحرير الذات من الرقابة الفكرية
تبجيل للتراث مع تجريم اي محاولة لفهمه بعيون معاصرة
المفارقة ان العقل لم يُقص من القمة فقط
بل من المجتمع نفسه
الناس لم تعتد الحوار
بل الإجماع
لم تعتد التساؤل
بل التسليم
ومع ذلك لا يزال الامل قائما
حين تصبح الفلسفة مادة يومية لا تهمة ثقافية
وحين يُكافأ من يزعج الاجماع لا من يردده
وحين نعيد تعريف التقدم على انه قدرة الانسان على التفكير خارج النص لا داخله
لا نهضة بلا عقل
ولا كرامة بلا نقد بناء
ولا حرية في ظل اسئلة مؤجلة
وان لم نستعد العقل
سنُدير الطقوس بحرفية
لكننا سنخسر المعنى.








