الأردن بين الاستقرار السياسي والتطلعات إلى المستقبل
رسمت التجربة السياسية في الأردن خلال العقود الماضية مسارًا فريدًا في المنطقة، تميز بقدر من الاستقرار السياسي والاجتماعي لم تعرفه الكثير من الدول المجاورة. وقد شكّلت هذه السمة العامة بيئة خاصة يُمكن النظر إليها بوصفها تجربة جديرة بالتأمل، سواء في إنجازاتها أو في التحديات التي واجهتها.
فمنذ تأسيس إمارة شرق الأردن عام 1921 بقيادة الملك المؤسس عبد الله الأول ابن الحسين، لم يقم الأردن على انقلابات عسكرية أو صراعات دموية على السلطة، بل كان الحكم قائمًا على عقد اجتماعي وتوافقي بين القيادة الهاشمية والعشائر الأردنية، حيث شاركت القوى المجتمعية الفاعلة في تشكيل الدولة، ومارست دورها الوطني ضمن إطار الولاء والاستقرار. وقد كانت هذه السمة – ولا تزال – حجر الأساس في تشكيل الدولة الأردنية الحديثة.
اتّسم المزاج العام في الأردن عبر العقود بالاعتدال والبعد عن التطرف، سواء على مستوى الحكومة أو المعارضة. فقد قامت الحياة السياسية في البلاد على مبدأ الحوار والتفاهم بين مختلف القوى، بما يضمن الحفاظ على الأمن الاجتماعي والسياسي.
لم تشهد البلاد مواجهات حادة أو انهيارات، بل سادت روح التفاهم – حتى في الأزمات – وحرص الجميع على الحفاظ على السلم الأهلي.
ولعل واحدة من السمات البارزة التي تميز الأردن عن غيره من الدول في المنطقة، هي غياب الطائفية من نسيجه السياسي والاجتماعي. فالدولة الأردنية تقوم على مبدأ المواطنة المتساوية دون تمييز ديني أو مذهبي. ويتمتع المواطنون من مختلف الخلفيات الدينية (مسلمين، مسيحيين وغيرهم) بكامل الحقوق المدنية والسياسية، ويتولون المناصب العليا في الدولة، وقد ساهم هذا النهج في تعزيز الوحدة الوطنية والانسجام الداخلي.
وعلى الرغم من ضعف موارده الاقتصادية نسبيًا، إلا أن الأردن يُعتبر من أكثر الدول التي حققت شروط الدولة الحديثة مبكرًا، وذات بنية تحتية مميزة، وحتى تقدمًا سياسيًا في المنطقة. فقد أرسى الأردن نظامًا نيابيًا قائمًا على انتخابات برلمانية دورية تُشرف عليها هيئة مستقلة، كما أطلق برامج متعددة للتحديث السياسي والإصلاح الحزبي، ما أدى إلى وجود أحزاب حقيقية، وإن كانت بحاجة إلى مزيد من التفعيل والتمكين.
ولقد استطاع الأردن، بقيادته الهاشمية ومؤسساته الراسخة، أن يبني هيكليات متقدمة للدولة، تعزز حكم القانون، وتضمن التوازن بين السلطات، وتُكرّس ثقافة المشاركة السياسية. وهذه مؤشرات واضحة على نضج النظام السياسي الأردني مقارنة بكثير من الأنظمة المجاورة.
ومع دخول الأردن المئوية الثانية من عمر الدولة، تتجه الجهود نحو تعزيزه كدولة ديمقراطية، عصرية، متماسكة، ومتراحمة، تقوم على سيادة القانون والفرص المتكافئة، وتسعى إلى تحقيق رؤية وطنية واضحة، يكون فيها المواطن شريكًا حقيقيًا في صياغة المستقبل، عبر حكومة شفافة، ومعارضة وطنية مسؤولة، ومجتمع مدني نابض بالحيوية.
إن المرحلة القادمة تتطلب إعادة نظر لتعزيز شكل العلاقة وتعزيز الثقة بين الحكومة والمجتمع، من خلال تطوير القوانين الناظمة للحياة السياسية، وزيادة تعزيز استقلال القضاء، وتعزيز الحريات العامة، وتطوير ضمانات نزاهة العملية الانتخابية بما يُفرز برلمانات تمثل الإرادة الشعبية.
كما أن تعزيز الحياة الحزبية، وتمكين المعارضة الوطنية من أداء دورها في الرقابة والمساءلة، لا بد أن يكون جزءًا أساسيًا من عملية الإصلاح السياسي.
فالأردن في مئويته الثانية بحاجة إلى تعزيز العقد الاجتماعي، بما يُرسّخ المواطنة المتساوية، ويُعلي من شأن المشاركة، ويستجيب لتطلعات الأردنيين في تعزيز الحرية وترسيخ الكرامة والعدالة.
إن الاستقلال لم يكن مجرد نهاية لانتداب أو خروجًا من استعمار، بل كان بداية تأسيس مشروع وطني ناجز، وهو اليوم يحتاج إلى تعزيز وتطوير وتحديث، كي يواكب تطلعات الأجيال الجديدة والقادمة، ويصون مستقبلها في عالم يتغير بسرعة، ولا ينتظر التردد والإبطاء








