الإعلام المسلّح: حين تتحوّل الكلمة إلى سلاح
في خضم الأزمات والتحولات المتسارعة التي يعيشها العالم العربي، تتعاظم أهمية الإعلام، ليس فقط كوسيلة لنقل الأحداث وتفسير الوقائع، بل كفاعل رئيسي في صياغة الوعي الجماعي، وتشكيل الانطباعات، وتوجيه المزاج الشعبي. غير أن هذه الأهمية لم تعد دائمًا محمودة، فقد انزلقت العديد من المؤسسات الإعلامية إلى لعب أدوار تتجاوز المهنية والموضوعية، لتتحوّل إلى أدوات في صراع المصالح والسياسات، بل إلى أسلحة ناعمة تُستخدم في حروب النفوذ والهيمنة.
إن تسليح الإعلام ليس مجرد وصف مجازي، بل هو توصيف دقيق لواقع تُوظف فيه الكلمة والصورة والمعلومة كأدوات للتأثير، وأحيانًا للتدمير. فحين يُستخدم الإعلام لترويج خطاب الكراهية، أو لتزييف الحقائق، أو لتأليب الشعوب ضد بعضها البعض، فإنه يفقد جوهر رسالته، ويتحول من وسيلة تنوير إلى أداة تضليل، ومن منبر للحوار إلى خندق للمعارك.
لقد شهد العالم العربي، منذ اندلاع ثورات "الربيع العربي"، تصاعدًا غير مسبوق في توظيف الإعلام لأغراض سياسية، حيث تم تجييش القنوات والمنصات لبث روايات أحادية، وتضخيم أحداث، وإخفاء أخرى، بما يخدم مصالح أطراف داخلية وخارجية. بل إن بعض وسائل الإعلام تحوّلت إلى ما يشبه غرف العمليات، تُدار منها الحملات، وتُشن عبرها الهجمات، ليس فقط على الخصوم السياسيين، بل على وحدة المجتمعات واستقرارها.
وما زاد الأمر تعقيدًا هو صعود وسائل التواصل الاجتماعي، التي رغم إيجابياتها في كسر الاحتكار الإعلامي، إلا أنها أتاحت الفرصة لانتشار الشائعات، والحملات المنظمة، وتضليل الرأي العام بوسائل أكثر خفاءً وتأثيرًا. وهكذا، دخلت المجتمعات في دوامة من الأخبار المتضاربة، والمواقف الحادة، والاستقطابات الحادة التي زادت الشرخ، بدل أن تُقرب وجهات النظر.
إن خطورة تسليح الإعلام لا تكمن فقط في نتائجه الآنية، بل في أثره التراكمي على الوعي العام. فالمجتمع الذي يتغذى على إعلام مسلّح، ينشأ فيه جيل مرتبك، مشوش، فاقد للثقة في المعلومة، وغير قادر على التمييز بين الحقيقة والدعاية. والأسوأ من ذلك، أن يتحول الإعلام من وسيلة بناء إلى أداة تهديم، تهدد السلم الاجتماعي، وتغذي الانقسامات، وتكرّس عقلية التخوين والتخويف.
لذلك، وفي ظل ما يعيشه العالم العربي من أزمات وتحولات، يصبح من الضروري إعادة النظر في الدور الذي يؤديه الإعلام، وتطهيره من أدوات التلاعب، وتحويله من ساحة حرب إلى منصة حوار. فالإعلام، حين يُسلّح، قد يكسب معركة لصالح طرف ما، لكنه بالتأكيد يخسر المجتمعات، ويقوّض أسس التعايش والاستقرار. وليس أمام الشعوب إلا أن تستعيد حقها في إعلام حر ونزيه، يُعبّر عنها، لا يُستخدم ضدها.








