أمن العالم لا تحققه الصواريخ والقنابل

{clean_title}
الشريط الإخباري :  

يخطئ من يظن أن الحرب الأخيرة التي شنّتها الولايات المتحدة الأمريكية على إيران كانت محصورة بين البلدين أو أنها ستكون الأخيرة.
فبعد أسبوع من الاستهداف الصاروخي الأمريكي بدأت الصورة الحقيقية تزداد وضوحا، لتؤكد أن دولا عديدة قدمت دعما لأمريكا بشكل أو آخر. واتضحت الحقيقة أن الجمهورية الإسلامية كانت مستهدفة من تحالف غربي واسع، عمل ككتلة واحدة أثناء الحرب. بينما لم ينبر أحد لمساعدتها أو الدفاع عنها. ولولا عملها الدؤوب لتطوير قدراتها الصاروخية منذ نهاية الحرب العراقية ـ الإيرانية في العام 1988 لكان وضعها العسكري مأساويا، خصوصا في ضوء الحصار العسكري المفروض عليها. ففي الوقت الذي استمر الغرب، خصوصا أمريكا، بتزويد كيان الاحتلال بأحدث المعدّات العسكرية وعلى رأسها طائرات أف35، كان هناك حصار مفروض على إيران. فلديها عدد محدود من الطائرات، أغلبها من نوع أف4 الأمريكية التي يتجاوز عمرها 50 عاما، ولديها بعض الطائرات الروسية المتطورة نسبيا لكنها لا تضاهي ما لدى «إسرائيل». ولذلك انحصرت قدرات الهجوم الإيرانية بالصواريخ التي طوّرتها ورفضت التخلي عن صناعتها، برغم محاولات الغربيين إجبار إيران على التفاوض بشأنها ضمن اتفاقية الحد من انتشار الأسلحة النووية. والمفارقة هنا أن إيران أخضعت منشآتها النووية للرقابة الدولية وسمحت لفرق عديدة من المفتشين الدوليين بزيارة تلك المنشآت، ووقعت اتفاقية الحد من انتشار الأسلحة النووية، بينما رفضت «إسرائيل» وما تزال ترفض كشف مشروعها النووي للرقابة الدولية.
في الأسبوع الماضي قال وزير الدفاع الفرنسي سيباستيان لوكورنو إن الجيش الفرنسي شارك في جهود لاعتراض طائرات مسيرة إيرانية كانت تستهدف إسرائيل قبل وقف إطلاق النار. وبموازاة ذلك كانت الصواريخ الإيرانية تتعرض لمحاولات الإسقاط. ولولا تطور تلك الصواريخ وسرعتها التي تفوق سرعة الصوت لكان إسقاطها ميسّرا للدول التي تخترق تلك الصواريخ أجواءها وهي تتوجه نحو كيان الاحتلال. كما أن حاملات الطائرات والبوارج الحربية الغربية في البحر المتوسط والبحر الأحمر لم تتوقف عن استهداف المسيّرات الإيرانية. وكان على إيران إطلاق أعداد كبيرة من تلك المسيّرات والصواريخ لتستطيع اختراق «القبّة الحديدية» الإسرائيلية. لذلك يمكن القول إن الحرب لم تكن متوازنة أبدا، بل كانت الكفة ترجح لصالح «إسرائيل» خصوصا مع تخاذل الدول العربية والإسلامية، وتواطؤ بعض الأطراف الغربية مع قوات الاحتلال. وهل هناك تواطؤ أبشع من الصمت المطبق إزاء المجازر اليومية التي تحدث في غزّة؟
فحتى هذه اللحظة لم يجشّم الغربيون انفسهم عناء الدعوة للتوقف عن استهداف المدنيين الذين يهرعون نحو مراكز توزيع الإغاثة الدولية، فلا يمر يوم بدون استشهاد العشرات من الفلسطينيين الباحثين عن لقمة لعائلاتهم. فهل قتل الجياع أمر مشروع في الشرعة الدولية؟ وما شكل العالم الذي يسمح باستهداف الجياع ليضاعف آلام العائلات التي تفقد أبناءها إما جوعا أو قتلا؟ وما يزيد الوضع إيلاما أن هذه الجرائم تتم علنا أمام عدسات المصوّرين، ومع ذلك فإنها لا تحرّك الضمائر ولا تجيّش المشاعر ولا تؤدي لارتفاع الأصوات المطالبة بوقف العدوان.

إن الطريق الذي يؤدي إلى نشر السلام والأمن يجب أن يمر عبر السياسات العادلة والتعامل المتساوي بين أبناء البشر وتوفير حاجاتهم الضرورية

وثمة تساؤلات عديدة حول هذا الوضع غير الطبيعي وغير الإنساني. فما مصلحة العالم وأمنه مما يجري في فلسطين؟ وما الذي سيحققه العالم من استقرار وأمن إذا بقيت منطقة الشرق الأوسط تعيش أوضاعا مضطربة يسودها الشك والظن والترقّب والخوف؟ هل يمكن تبعيض أمن العالم؟ أم يجب أن يسود الأمن أرجاء المعمورة؟ فحين يكون هناك قطاع البشر يعاني من غياب الأمن الغذائي والمعيشي كما هو حال أهل غزة، هل يمكن إسكات البطون الجائعة بقوة السلاح؟ وحين يغيب الأمن الحياتي عن شعوب الدول المستهدفة بالقصف الأمريكي الذي يتوسع مع انتشار الأساطيل الأمريكية في بحار العالم، هل يستطيع الرئيس الأمريكي إجبار سكان هذا الكوكب على التظاهر بالشعور الآمن وإخفاء القلق والخوف والخشية مما يخبئه المستقبل؟ إن الطريق الذي يؤدي إلى نشر السلام والأمن يجب أن يمر عبر السياسات العادلة والتعامل المتساوي بين أبناء البشر وتوفير حاجاتهم الضرورية للحفاظ على الحياة. أما استخدام التكنولوجيا الحديثة وحدها لإخماد الأصوات المطالبة بالعدالة واقتناص أرواح البشر بالمسيّرات الحديثة والصواريخ الموجّهة فيستحيل أن يؤدي إلى الأمن المنشود وانتشار مشاعر الحب والوئام بين المتخم والجائع، وبين الآمن على نفسه وأهله ومن يعيش القلق والخوف في كل لحظة. وحتى الآن لا يبدو أن المشاعر الإنسانية تشهد تطورا موازيا للتطور التكنولوجي، وهذا يعني أن العالم يسير بخطى سريعة نحو التوتر والشك والحقد. إن رضا النفس خيار ذاتي يتحقق بشعور الإنسان في داخله بالرضا المؤدّي للقناعة، وليس بالإكراه والإجبار وغسيل المخ والترويج الدعائي للدعاوى الفارغة.
بعد التوتر الذي حدث في الأسابيع الأخيرة نتيجة الضربات الاستباقية الأمريكية للمنشآت النووية الإيرانية، قد يشعر السياسي الأمريكي بالانتصار، وأن لديه من القوة العسكرية ما يجعله قاادرا على تحدّي العالم، وفاته أن هناك حدودا للقوة العسكرية، وليس أدل على ذلك من عجز ذلك العدوان عن تدمير المنشآت النووية الإيرانية بشكل كامل، كما أكدت الاستخبارات الأمريكية بعد فحص الصور التي وفّرتها الأقمار الصناعية. ويكفي الاسستدلال بما حدث في الحرب العالمية الثانية. فقد استخدمت أمريكا القنبلة النووية التي دمّرت مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين، وبذلك انتهت الحرب. ولكن ما الذي حدث لاحقا؟
ففي غضون ربع قرن بعد ذلك، نهضت اليابان وألمانيا واستعادتا قوتهما وأصبحتا شوكة اقتصادية في عيون الأمريكيين. فالقوة العسكرية المفرطة ليست العامل الوحيد سواء لتدمير الأمم أم صناعة نهضتها. ويدرك الرئيس الأمريكي الذي أصدر أوامره بإطلاق الصواريخ والطائرات على إيران أن عملياته ربما أخّرت مشاريع التصنيع الإيرانية ثمانية عشر شهرا وفق ما يقوله الخبراء، ولكنّ زعماء إيران مصمّمون على تطوير قدراتهم العسكرية والنووية، ويصرّون، كما فعلوا من قبل، أنهم ملتزمون بالطبيعة السلمية لهذه القدرات.
وبرغم أن الإعلاميين الغربيين ملتزمون بسياسة الكيل بمكيالين والانتقائية في التغطيات، لكنهم يعلمون جيدا أن الطرف الذي يستحق فرض العقوبات هو الذي يقتل المدنيين بدون رحمة. وكما ذكر أعلاه، لم يعد سرّا أن الجياع الفلسطينيين يقتلون بالعشرات يوميا وهم يتوجهون للحصول على الطعام من مراكز الإغاثة الدولية في قطاع غزة. ولو كان ضحايا القتل الإسرائيلي اليومي من البهائم لضجّت المنظمات المهتمة بحقوق الحيوان، ولارتفعت أصواتهم في المحافل الدولية لوقف ذلك. بينما يستمر حصد أرواح الجياع الفلسطينيين يوميا بدون أن يرفّ طرفٌ لأحد من الحكام العرب أو الأجانب. وما يزال رئيس الوزرا الإسرائيلي المتهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية يحظى باحترام زعماء العالم الغربي، ويتم التعامل معه كـ «رجل دولة» وليس كمطلوب للعدالة الدولية.
والسؤال هنا: هل هذا الوضع مرشح للاستمرار؟ برغم صعوبة الإجابة يجدر التأكيد على أن هذا الوضع قد يكون جديدا في بعض تفصيلاته، ولكنه مستمر منذ الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين قبل أكثر من ثلاثة أرباع القرن. وبرغم تغير التحالفات الدولية وأوضاع العالم وما يُقال عن «انتشار الوعي» لم تحدث نقلة نوعية في المستوى الأخلاقي الدولي تضغط على السياسيين لتغيير سياساتهم والالتزام بالقانون الإنساني الدولي، بل بقي الخرق سيد الموقف، وكذلك تجاهل حقوق البشر مع غياب الاحتفاء بالذكريات الدولية المرتبطة بتلك الحقوق. فعندما مر اليوم العالمي لمكافحة التعذيب الأسبوع الماضي (26 يونيو) لم يلتفت إليه أحد، ولم تُعقد المؤتمرات أو تُسيّر المظاهرات للاحتفاء به. ولذلك ليس من قبيل المبالغة القول بأن عالم اليوم تجاوز بمسافات طويلة المقولات الأخلاقية وأصبح محكوما بما يُسمى «الواقعية السياسية» التي تفرضها القوّة بعيدا عن الأخلاق والقيم والضمير. ومن أسباب ذلك عدم التصدّي لقوى الشرّ التي تفرض نفسها على العالم، وتقوّض دعائم العمل الأخلاقي والقيمي المشترك. لقد رحل زعماء الصحوة السياسية والأخلاقية من الساحة العالمية وأصبحت ثقافة «العالم الحرّ» مهيمنة على الوضع الدولي، فلا مكان للمنظمات الحقوقية في السياسة الدولية الحالية، ولا رغبة لزعماء الدول في الترويج لتلك المنظومات خصوصا مع إصرارها على التشبث بالسلطة وقمع الأصوات المناهضة. يصدق هذا على أغلب دول العالم وفي مقدمتها دول «العالم الحرّ». لذلك أصبح العالم في حاجة ماسّة لرجال كبار بمستوى روّاد الإصلاح السياسي والأخلاقي الذين تصدّروا المشهد الدولي في منتصف القرن الماضي وفرضوا على الدول الكبرى الاستماع للمقولات الحقوقية والقيمية. فمن أين يظهر هؤلاء؟

د. سعيد الشهابي

كاتب بحريني

© جميع الحقوق محفوظة لوكالة الشريط الإخبارية 2024
تصميم و تطوير
Update cookies preferences