سوريا ما بعد النفوذ الروسي – الإيراني
منذ أن قدّم ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، زعيم جبهة النصرة السابق، حليف داعش، رئيس سوريا الحالي أبو محمد الجولاني أو أحمد الشرع إلى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال زيارته للسعودية في أيار/مايو الماضي، جرت المياه بكثرة وبسرعة تحت جسر العلاقات الأمريكية – السورية، وأبدى الرئيس الأمريكي إعجابه بالرجل الذي طالما اتهمته واشنطن بأن يديه ملوثتان بدماء جنود أمريكيين. وللحقيقة فإن الجولاني (الشرع) حصل على تزكية من أطراف أخرى عربية وغير عربية للقاء ترامب. وبعد اللقاء وجّه ترامب أركان إدارته لإعادة تقييم الموقف بشأن العلاقات مع النظام الجديد في دمشق. وبعد أقل من 6 أسابيع أصدر الرئيس الأمريكي في 30 من الشهر الماضي قرارا تنفيذيا بإلغاء العقوبات الاقتصادية الأمريكية على سوريا، وتوجيه الإدارة إلى اتخاذ كافة الإجراءات الضرورية لتحقيق ذلك، بهدف إعادة دمج الدولة العربية المهمة استراتيجيا، في النظام المالي العالمي، واستعادة مكانتها الاقتصادية والتجارية ومساعدتها على إعادة بناء ما تسببت في تدميره أكثر من عشر سنوات من الحرب الأهلية والعقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي ضد نظام بشار الأسد. دوافع الولايات المتحدة تتجاوز إعجاب الرئيس الأمريكي بالجولاني أو الشرع إلى إعادة تقييم الدور الذي يمكن أن تلعبه سوريا في إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط الجديد الذي تطمح الى إقامته إسرائيل بالمشاركة مع الولايات المتحدة.
ويعتبر الشرع من وجهة نظر كثير من السياسيين والمراقبين، قاطرة مهمة من قاطرات التطبيع المحتمل مع إسرائيل، وتوسيع نطاق نفوذها جنوب الحدود التركية وفي منطقة شرق البحر المتوسط، وفتح ما تطلق عليه إسرائيل ممر التنمية الجديد من الهند إلى أوروبا عبر الخليج والبحر المتوسط من خلال مركز تحكم رئيسي في حيفا. لذلك فإن رفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا لا يستجيب فقط لمصلحة ثنائية مع الولايات المتحدة، وإنما هو يمثل رافعة مهمة للجناح الثالث على خريطة الهيمنة الإقليمية الإسرائيلية التي تمثل اتفاقيات ابراهيم جناحها الأول، ومنتدى النقب الاقتصادي جناحها الثاني، وممر التنمية جناحها الثالث. ولا تكتمل البنية الأساسية للعلاقات الاقتصادية المستهدفة من دون تشكيل رأس جسر لقاعدة اجتماعية تتولى تطوير وحماية هذه العلاقات عن طريق مؤسسة مدنية أو أكثر إلى جانب المؤسسات الرسمية. وفي هذا السياق تم في واشنطن منتصف الشهر الماضي إعادة تشكيل مجلس الأعمال الأمريكي – السوري من أجل أن يلعب هذا الدور. وسوف يلعب المجلس دور حلقة الصلة بين الحكومة والشركات الأمريكية والمستثمرين، طبقا للأولويات التي تحددها الحكومة، ويساعد على خلق شبكة من رجال الأعمال الأمريكيين المعنيين بالاستثمار في سوريا، والقيام بدور تقديم المشروعات الاستثمارية السورية وترويجها في الولايات المتحدة.
تصفية النفوذ الروسي
ترتبط المصالح الاقتصادية الروسية في سوريا ارتباطا وثيقا بأهدافها الاستراتيجية في الشرق الأوسط. فرغم أن سوريا ليست قوة اقتصادية كبيرة في المنطقة، إلا أنها توفر لموسكو عددا من المزايا الرئيسية التي تخدم أغراضا تجارية ومالية وجيوسياسية، تيسر لها الاستفادة من وجودها العسكري في شرق البحر المتوسط. وفيما يلي أبرز المصالح الاقتصادية الروسية في سوريا:
أولا: قطاع النفط والغاز والتعدين
استثمرت الشركات الروسية بكثافة في قطاع النفط والغاز السوري، بما في ذلك الاستكشاف والاستخراج. على سبيل المثال، شاركت شركة «تاتنفط» في تطوير حقول النفط في دير الزور، وأبرمت شركة «سويوز نفتوغاز» صفقة لتعدين الفوسفات. كما حصلت شركات روسية، وخاصة شركة «ستروي ترانس غاز» و«ميركوري» على عقود لتطوير وإدارة البنية التحتية للنفط والغاز في سوريا، ولا سيما في وسط وشرق البلاد. كما تشارك شركات روسية في أعمال التنقيب والبحث عن الغاز والنفط قبالة الساحل السوري في شرق البحر المتوسط، خصوصا في المناطق القريبة من تركيا وقبرص. ويتيح دور الشركات العاملة في قطاع النفط والغاز مثل روس نفط فرصا ثمينة لتحقيق أرباح كبيرة في حال الكشف عن مخزونات قابلة للاستغلال التجاري. كما أن ذلك كان من شأنه تطوير قدرة سوريا على الاعتماد على النفس في توفير احتياجاتها من الطاقة، ومن ثم تقليص اعتمادها على إمدادات النفط والغاز من الخارج، إضافة إلى إمكانية التصدير. ويمتد دور الشركات الروسية إلى استغلال مناجم الفوسفات في سوريا، التي تمثل واحدا من أهم مصادر الثروة المعدنية في البلاد. ومن المعروف أن سوريا تملك خامس أكبر احتياطيات من الفوسفات في العالم. وقد حصلت شركة «ستروي ترانس غاز» على امتياز تشغيل وتصدير مناجم فوسفات خنيفيس والشرقية في عام 2018. ويتم تصدير خامات الفوسفات حتى الآن بكميات صغيرة إلى دول مختلفة منها مصر وصربيا وأوكرانيا. لكن انخفاض مستوى استغلال المناجم يحول دون تعظيم العائد من هذه الصادرات. ولم تستثمر الشركات الروسية بما يكفي للمحافظة على مستويات الإنتاج السابقة أو تطويرها، ما أدى إلى هبوط إنتاج النفط إلى 80 ألف برميل يوميا في العام الماضي مقابل 380 ألف برميل يوميا عام 2010. وكذلك هو الحال في إنتاج مناجم الفوسفات، حيث أدى نقص الاستثمارات إلى انخفاض الصادرات لما يقرب من 27 مليون دولار مقارنة بحوالي 270 مليون دولار في عام 2010.
ثانيا: استغلال الموقع والمزايا اللوجستية
تحتل سوريا موقعا حيويا في الركن الشمالي الشرقي من حوض شرق البحر المتوسط، وهو ما يمنح موانئ مثل طرطوس واللاذقية مزايا عظيمة، خصوصا للسفن الروسية المتجهة جنوبا من البحر الأسود إلى البحر المتوسط والمحيطات المفتوحة في العالم. وفي هذا السياق حصلت شركة ستروي ترانس غاز الروسية على امتياز تشغيل ميناء طرطوس في عام 2019 لمدة 49 عاما قابلة للتجديد لمدة 25 عاما أخرى مقابل 500 مليون دولار، أي بواقع 10 ملايين دولار سنويا! مع تقاسم أرباح التشغيل بنسبة 65 في المئة للجانب الروسي و 35 في المئة للجانب السوري. ويخدم الميناء أغراضا تجارية وعسكرية ومدنية على حد سواء. وكانت روسيا تخطط لتطوير طرطوس بحيث يصبح مركزا للتجارة في حوض البحر المتوسط، ومنفذا لتوزيع صادرات الاتحاد الأوراسي. غير أن سقوط نظام الأسد في أواخر العام الماضي لم يمهل روسيا لتحقيق طموحاتها. ففي كانون الثاني/يناير الماضي قررت الحكومة السورية إلغاء الامتياز الذي حصلت عليه الشركة الروسية. ولا تقتصر مزايا الموقع على الموانئ فقط، وإنما تشمل أيضا التحكم في الطرق البرية بين تركيا ودول الخليج، وبين إيران والعراق الواصلة الى البحر المتوسط، وخطوط إمدادات النفط والغاز وكابلات الاتصالات الأرضية والبحرية وأبراج نقل الكهرباء الإقليمية من الخليج والشرق الأوسط إلى أوروبا، ومنها خط الغاز العملاق التي تطمح قطر إلى إقامته لتصدير الغاز الطبيعي إلى أوروبا.
ثالثا: الصادرات العسكرية والتجارة والاستثمار
استحوذت روسيا على ما يتراوح بين 10 – 15 في المئة من واردات سوريا بمعدل يبلغ حوالي 2 مليار دولار سنويا، وبلغت استثماراتها المباشرة هناك حوالي 20 مليار دولار. لكن معظم هذه الاستثمارات كان قد بدأ تنفيذها قبل التدخل العسكري لإنقاذ نظام الأسد في ايلول/سبتمبر عام 2015. ومن الصعب حساب قيمة الصادرات العسكرية الروسية إلى سوريا خلال الفترة من عام 2015 حتى 2024، إذ أن اتفاقيات التعاون العسكري بين الطرفين منحت روسيا الحق في حرية الدخول والحركة والسيادة على قواعدها العسكرية، واعتبار كل ما تجلبه من أسلحة إلى قواعدها، الجوية والبحرية ملكا للدولة الروسية، معفىً تماما من الرسوم والجمارك للدولة السورية. ومن الواضح أن روسيا بما لديها من مخزون الطاقة والمعادن لم تكن تتطلع إلى تنفيذ استثمارات كبيرة في القطاعين، وكانت تهتم أكثر بالدور الذي يمكن أن تلعبه كطريق لإمدادات النفط والغاز. وفيما يتعلق بأعمال إعادة البناء وإعمار ما تسببت الحرب الأهلية في تخريبه منذ عام 2011، فإن روسيا لم يكن لديها ما يكفي من الإمكانات أو الرغبة في تحقيق ما تحتاجه أعمال إعادة البناء في سوريا بما في ذلك المشروعات الكبرى. وكانت الشركات الروسية تستعد قبل انهيار نظام الأسد للحصول على عقود كبيرة في حال إنهاء العقوبات وتمكين الحكومة السورية من الحصول على تمويل دولي عن طريق مؤسسات التمويل والتنمية الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد. وليس من المتوقع في الوقت الحاضر أن تحصل الشركات الروسية على عقود سورية مهمة في مشروعات إعادة الإعمار، لأن النظام الجديد في دمشق يشعر بمرارة تجاه الدول العربية وغير العربية، التي كانت تساند نظام بشار الأسد من قبل. وربما سيكون على روسيا أن تلجأ لطلب مساعدة تركيا وإسرائيل والولايات المتحدة، من أجل حماية مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية في سوريا، لأن خسارة هذه المصالح يصيب نفوذها في الشرق الأوسط بأكبر نكسة منذ خمسينات القرن الماضي.
المصالح
الاقتصادية الإيرانية
تلعب منظمات الحرس الثوري الإيراني، ومن ضمنها فيلق القدس ومؤسسة خاتم الأنبياء وغيرهما دورا مركّبا، يدمج أنشطة عسكرية وسياسية واقتصادية وفقهية في قوالب متناسقة، لتحقيق هدف واحد هو الاستحواذ على أقصى قدر ممكن من النفوذ. وفي إطار العقيدة السياسية الإيرانية فإن النظام الهيراركي لجمع إيرادات العشور من الأئمة «المُقَلَدين» حتى المرشد الأعلى، يلعب دور العمود الفقري في تمويل كافة أنشطة مؤسسات الثورة الإيرانية الموازية لمؤسسات الدولة. ولذلك فإن وجود مقاتلين أو مستشارين عسكريين إيرانيين للنظام السوري السابق كان يعني بالضرورة وجود هيكل مالي يتولى جمع الإيرادات وتحديد أبواب إنفاقها، والسعي إلى تعظيمها من خلال أنشطة تعود بالنفع المشترك على السوريين والإيرانيين. ومن ثم فإن مغادرة البعثات التمثيلية للأئمة تعني في جوهرها خسارة كبيرة لجزء من إيرادات العشور التي كانت تحصل عليها من سوريا، ويعاد توجيه جزء منها إلى مراكز مؤسسات الثورة داخل إيران نفسها. وعلى الرغم من أن الإيرانيين هم أهل تجارة بالأساس قبل أن يكونوا أهل ثورة، إلا أن تتبع مؤشرات العلاقات الاقتصادية بين سوريا وإيران خلال الفترة من عام 2011 حتى سقوط نظام الأسد يظهر أن سوء الأوضاع في سوريا، وعدم الاستقرار، وضعف نظام الحكم قللت فرص نمو التجارة والمبادلات الاقتصادية بين الطرفين. ففي السنة المالية الأخيرة قبل سقوط نظام بشار الأسد هبطت قيمة الصادرات الرسمية من إيران إلى سوريا إلى النصف تقريبا مقارنة بالسنة السابقة لها، لتصل إلى 120 مليون دولار أمريكي تقريبا، نزولا من 244 مليون دولار أمريكي في السنة المنتهية في اذار/مارس 2022. وقد سيطرت السلع الزراعية والمنتجات غير البترولية على صادرات إيران لسوريا.
وكما حدث في الحالة الروسية، فإن طموحات إيران لتطوير مصالحها الاقتصادية في سوريا اصطدمت بسقوط النظام. على سبيل المثال كانت إيران في إطار سياستها للتخلص من الدولار الأمريكي في معاملاتها التجارية والمالية تسعى إلى استخدام العملات المحلية في تسوية التجارة مع سوريا، وإقامة بنك مشترك يتم من خلاله تسوية المعاملات المالية المتبادلة بين البلدين، لتجنب العقوبات الدولية وتأثيرها السلبي، والعمل على تنمية التجارة الثنائية المشتركة. لكن هذا السعي توقف حاليا، كما توقفت كافة المشروعات الأخرى التي كانت إيران تطمح في إقامتها في إطار عمليات الإعمار وإعادة البناء في سوريا. وتضمنت تلك المشروعات إقامة مشروعات زراعية واسعة، والمشاركة في إعادة بناء وتجديد شبكات الطرق والبنية الأساسية المحلية، وإقامة شركة اتصالات جديدة مملوكة لمستثمرين إيرانيين، والمشاركة في إعادة بناء قطاع إنتاج وتوزيع الطاقة وتجديد الصناعات المختلفة التي انهارت خلال الحرب الأهلية. وفي نهاية الأمر يمكن القول بأن المصالح العسكرية الإيرانية في سوريا طغت طغيانا كبيرا على مصالحها الاقتصادية. ومن ثم فإن طهران لم تترك وراءها في دمشق بعد سقوط الأسد ما يمكن أن يصبح قاعدة لمصالح متبادلة مع النظام السوري الجديد.
حاجة سوريا لإعادة البناء
بصرف النظر عن معطيات السياسة ومتغيراتها فإن سوريا أصبحت في حاجة إلى إعادة البناء بالكامل تقريبا بعد ما يقرب من عقد ونصف من الزمان تعرضت فيه مقومات البنية الأساسية بلا استثناء للانهيار بسبب الإهمال الحكومي والحرب الأهلية. وطبقا لتقديرات البنك الدولي فإن الاقتصاد السوري فقد ما يقرب من نصف قيمته خلال تلك الفترة، وهبط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي إلى أقل من 800 دولار سنويا، وأصبح أكثر من 90 في المئة من السكان يعاني من الفقر. وسوف تساعد إجراءات رفع العقوبات على فك تجميد الأرصدة المالية للحكومة السورية في الخارج، وتيسير الوصول إليها واستخدامها عبر مؤسسات النظام المصرفي الدولي، والحصول على استثمارات من الخارج، إضافة إلى حرية التبادل التجاري في الاتجاهين، التصدير والاستيراد. ويقدر البنك الدولي أن الناتج المحلي الإجمالي لسوريا سيرتفع في العام الحالي بنسبة 1 في المئة، بعد أن كان قد سجل انكماشا بنسبة 1.5 في المئة في العام الماضي. كما أن إجراءات رفع العقوبات تعزز مقدار الثقة في الحكومة السورية الحالية التي تحاول تثبيت أقدامها على الأرض، بطرح مشروعات جديدة للمستثمرين من المغتربين السوريين، خصوصا في قطاعات السياحة والإعلام. وطبقا لتقارير صدرت أخيرا فإنها قررت إنشاء مدينة عالمية للإنتاج الإعلامي بتكلفة استثمارية تصل إلى 1.5 مليار دولار، ما يساعد على إعادة الروح لصناعة الدراما السورية والمسلسلات التاريخية.
كما تخطط لإطلاق حزمة من المشاريع السياحية بتكلفة استثمارية تبلغ 8 مليارات دولار. وفي مجال الاستثمارات في القطاع الاستخراجي تستهدف زيادة إنتاج الفوسفات إلى 6 ملايين طن في العام القادم ترتفع إلى 10 ملايين في عام 2027 وتوجيه الإنتاج للتصدير مع العمل على زيادة القيمة المضافة للصادرات. وتتبنى الحكومة حتى الآن سياسة مالية حذرة تتجنب اللجوء إلى التمويل بالاستدانة من الخارج أو اللجوء الى صندوق النقد الدولي، جريا على نهج الرئيس التركي اردوغان على مايبدو. ومن المتوقع أن تلعب تركيا والولايات المتحدة والسعودية وقطر وإسرائيل دورا كبيرا في صفقات إعادة البناء والإعمار، سواء من ناحية التمويل أو الإمدادات واستقدام الشركات المؤهلة لإنجاز مشروعات البنية الأساسية الكبرى على ضوء إقبال ملايين السوريين، الذين كانوا قد غادروا، على العودة إلى بلادهم.








