من الفكرة إلى الورقة... بداية البناء بالوعي والتخطيط

{clean_title}
الشريط الإخباري :  


سلسلة شذرات أسبوعية بعنوان:
"هندسة المباني من الجذر إلى القمة، نحو بناءٍ آمن ووعي إنشائي"
سلسلة لمحات توعوية ومقتطفات علمية يكتبها:
أ.د. أنيس الشطناوي
أستاذ الهندسة الإنشائية والزلازل – الجامعة الأردنية
"الحلقة الثانية"
قبل أن يتم صب أول متر مكعب من الخرسانة، وقبل بناء أول حجر، تبدأ قصة البناء من لحظة الفكرة وصولاً إلى القرار الذي يتخذه الشخص، فيقول لنفسه: "سأبني مسكنًا".
هنا تبدأ رحلة قد تكون معقدة وشاقة، مليئة بالتفاصيل وتتطلب قدرًا كافيًا من الوعي والتخطيط المدروس، فالبناء ليس قراراً عاطفياً، ولا مغامرة مالية، إنه مسؤولية تتولّد من حاجة ملحّة، تتطلّب الإدراك أن الخطوة الأولى في رحلة البناء ليست هندسية بحتة ولا تبدأ من الورقة أو القلم، إنما تبدأ من بناء الفكرة للاحتياج الواقعي والرؤية الحياتية للمستقبل وحسابات الحاجة والمنفعة لصاحب البناء، ولا بدّ أن يبدأ الأمر بتحديد الحاجة الفعلية للمسكن: عدد أفراد الأسرة، أعمارهم، طبيعة حياتهم اليومية، ونمط معيشتهم......فهل نحتاج إلى غرفتين أو ثلاث غرف نوم أم أكثر؟ كم حماماً يلزمنا؟ هل يجب أن تُفصل غرفة المعيشة عن المطبخ؟ هل سنحتاج مستقبلًا إلى غرف أو طوابق إضافية؟..... 
هذه الاحتياجات تتجسد في تصور مبدئي بسيط قد يُتداول بدايًة بالكلام بين أفراد العائلة، أو يُرسم أحياناً باليد، ليشكّل نواة الفكرة للشكل المعماري وللتوزيع الفراغي الذي ستحمله الجدران لاحقاً، وأن لا يكون الهدف فقط رسم منزل الأحلام، بل رسم نمط حياة، يعكس الحاجة الفعليّة والتطلّعات المستقبلية، ويحقق الراحة، ويحترم التشريعات وطبيعة الموقع والأرض ونظام البناء ومحتوياته، ويتناسب أساسًا مع القدرة المالية.
إنّ الميزانية لا تنحصر في كونها مجرد رقم أو سقفٍ مالي، بل هي إطار يحدد كل شيء من أول حجر إلى آخر لمسة تشطيب، إنها البوصلة التي توجه قراراتنا، فكل تصور جميل، لا تقف خلفه ميزانية مالية واقعية، سيبقى حبراً على ورق أو سيؤدي إلى مصاعب وأعباء مالية مرهقة، فلا بد من تحديد ميزانية مبدئية للبناء تشمل ثمن الأرض، كلفة الإنشاء من مواد وأجور، التصميم والإشراف، التشطيبات، والخدمات والرسوم، وصولا إلى كلفة التشغيل والصيانة الدورية مستقبلّا، "فهل ستبدأ بناءك من الواقع أم من الحلم؟"
بعد أن تتبلور الفكرة وتُقاس بميزان الواقع، تُدق أولى أبواب البناء: "باب المكتب الهندسي دون غيره"!!.
وهناك تبدأ مرحلة الترجمة المعمارية، ليجتمع صاحب البناء وعائلته بالمهندس المعماري، ويشرح له بكل وضوح وصراحة تفاصيل رؤيته واحتياجاته، ليقوم المعماري بتطوير تصور معماري أو أكثر، يُناقشها مع المالك، ويُعدَّل ويُحسّن، حتى الوصول إلى طبيعة متوازنة بين الشكل والوظيفة، والذوق والميزانية، ويشمل هذا التصور: عدد الطوابق حاليًا ومستقبلًا، التوزيع الفراغي، الشكل العام الخارجي، نوع المنشأ إن كان خرسانياً أو حجرياً، وغير ذلك من تفاصيل.
وما إن يستقرّ المخطط المعماري، حتى يدخل إلى المشهد أهم من يملك سلطة أمان البناء: المهندس الإنشائي، الحارس الأمين والأول على سلامة المنشأ وديمومته، حيث يستلم الإنشائي كافة التفاصيل المعمارية ويبدأ أولًا بقراءة "ما خفي تحت البناء"؛ أول وأهم الوثائق "تقرير فحص التربة لموقع البناء"، وهو الوثيقة الأولى والأخطر في هذه المرحلة، فلا تستهن بها أو تختزلها بسعر رخيص دون فحوصات حقيقية!!. ليبدأ بعدها المهندس الإنشائي بحساب الأحمال ووضع منهجية توزيعها وانتقالها، ويحلّل ويُصمّم العناصر الخرسانية من عقدات وجسور وجدران وقواعد وأساسات، ويُحدّد طبيعة وتفاصيل الأعمدة والجسور والأسقف، وفقاً للمتطلبات المعمارية المتفق عليها، وكودات التصميم الهندسي المعتمدة وخصوصية المنطقة الزلزالية، وطبيعة وخصائص الأرض والتربة، وغيرها.
إن مرحلة ما قبل التنفيذ، من لحظة اتخاذ القرار وحتى الانتهاء من التصاميم الهندسية الإنشائية، هي العمود الفقري لأي مشروع ناجح، ومن لا يحسن التخطيط في هذه المرحلة، سيدفع الثمن لاحقاً على شكل هدرٍ مالي، ومعاناة وظيفية داخل البيت، وتعديلات مستقبلية غير محسوبة، أو أخطاء إنشائية قد لا تُغتفر، وقد تؤدي إلى ما لا يُحمد عقباه.
في الحلقة القادمة، ننتقل معكم من الفكرة إلى الحفرة، إلى الأرض والتربة، لنبدأ مرحلة التهيئة والحفر والتأسيس، حيث ستلامس الفكرة التربة، ويُرسم على أرض الواقع أول خط من الجذر إلى القمة....
أ.د. أنيس الشطناوي
أستاذ هندسة الإنشاءات والزلازل – الجامعة الأردنية

© جميع الحقوق محفوظة لوكالة الشريط الإخبارية 2024
تصميم و تطوير
Update cookies preferences