سوزان أبو بكر تكتب : (التيك توك) ... بين ضجيج الترند وصمت القيم
سوزان أبو بكر
لم يكن أحدٌ يتوقع أن يتحول تطبيق ترفيهي بسيط كـ"تيك توك" إلى ظاهرة عالمية تعيد تشكيل الوعي والسلوك، وتفتح أبوابًا جديدة للانتشار السريع والتأثير الفوري، لكنّ السؤال الذي يفرض نفسه اليوم: أيُّ تأثير هذا الذي نعيشه؟ وأيُّ قيم تُزرع في أذهان أبنائنا باسم "الترند"؟
لقد باتت الشاشات الصغيرة مسرحًا لانهيارات أخلاقية هائلة، تُبَثّ بثقة وجرأة، وتُقابَل بإعجاباتٍ وتعليقاتٍ لا تُحصى. في دقائق معدودة، يمكن لطفل لم يتجاوز العاشرة أن يشاهد محتوى يحطّ من الذوق، ويجرّد الإنسان من قيمه، ويجعل من الابتذال وسيلةً للشهرة، ومن الانحراف بوابةً للربح.
ولا يقتصر الانحدار الأخلاقي على الصورة فقط، بل امتد ليطال الكلمة أيضًا. فقد غزت الألفاظ السوقية والبذيئة عالم "التيك توك"، وأصبحت تُتداول بين اليافعين وكأنها عبارات يومية مألوفة. ألفاظ تخدش الحياء، وتُفرغ اللغة من جلالها، تُقال على سبيل المزاح أو الغضب أو حتى "الترفيه"، لكنها في الحقيقة ترسّخ ثقافة العنف اللفظي والانحطاط اللغوي. الأخطر أن هذه الألفاظ لا تُرفض، بل تُعاد إنتاجها، ويتناقلها الأطفال والمراهقون دون إدراك لمعناها أو أثرها، مما يُنذر بجيل لا يرى في الفصاحة قيمة، ولا في الاحترام ضرورة.
ومن أبرز مظاهر الانحدار المرتبط بتيك توك، هو ذلك اللهاث المحموم خلف الربح السريع دون أي مضمون أو قيمة تُذكر. فقد تحوّل الجهل إلى سلعة، والتفاهة إلى وسيلة للكسب، وأصبح كثيرون يجنون المال من بث محتوى فارغ، لا يقوم على فكر ولا يحمل رسالة، بل يعتمد على الإثارة الرخيصة واستغلال الغرائز. هذا النموذج يُروَّج على أنه "نجاح"، في زمنٍ باتت فيه القيمة تُقاس بعدد المشاهدات لا بعدد الإنجازات، وبعدد المتابعين لا بجودة التأثير.
وفي ظل هذا المشهد المقلق، يُهمَّش العلم، ويُقصى المحتوى الهادف، ويُدفن كل ما يحمل قيمة معرفية أو رسالة تربوية. فصانعو المحتوى التثقيفي أو الأخلاقي لا يحظون بذات الانتشار، ولا يرقى محتواهم – في نظر الخوارزميات – إلى مستوى "الترند". لقد أصبح القليل من الجهل ضجيجًا يسمعه الجميع، بينما يُترَك صوت الحكمة والعلم يتردّد في زوايا مهجورة، لا يسمعه إلا من نذر نفسه للوعي وسط هذا الضباب. هذه المفارقة المؤلمة تدفع بالعقول النيّرة إلى التراجع، وتعطي الضوء الأخضر لصعود نماذج خالية من العمق، تتصدر المشهد الرقمي وتشكّل وعي الأجيال دون أدنى مسؤولية.
ولا تغيب عن المشهد أيضًا ظاهرة "الروتين اليومي"، حيث تُبثّ مقاطع حيّة من داخل البيوت وغرف النوم، تحت ذريعة التوثيق أو مشاركة تفاصيل الحياة الشخصية. لكنّ كثيرًا من هذه البثوث تتجاوز حدود الخصوصية والحياء، وتقدم صورة سطحية مشوّهة عن الحياة الأسرية، تُستغل فيها الأنثى كواجهة لجذب المشاهدات. وقد تحوّل اللايف إلى مسرح مفتوح للانكشاف والتسليع، في مشهد يُطبع تدريجيًا في وعي الجمهور، ويهدم القيم العائلية من الداخل باسم "الحرية" و"الشفافية".
إننا اليوم أمام تحدٍّ أخلاقي لا يقل خطورة عن الأوبئة أو الحروب. وعلينا أن نعيد ترتيب أولوياتنا: أن نغرس في أبنائنا قيمًا راسخة، ونُعلّمهم أنّ الشهرة لا تعني النجاح، وأن الإنسان ليس بعدد متابعيه، بل بمواقفه وأخلاقه. فالمجتمع الذي يصمت عن هذا التدهور، سيفقد مع الوقت هويته، ومكانته، وإنسانيته.
فلنرفع الصوت عاليًا قبل أن نصحو على جيلٍ يعرف كل شيء عن "الترند"، ولا يعرف شيئًا عن الفضيلة.








