خدمة العلم... حين يُنادينا الوطن
في لحظة لا تشبه سواها، جاء القرار بإعادة خدمة العلم، ليوقظ شيئًا دفينًا في قلوبنا. شيءٌ يشبه النداء القديم... ذاك الذي يقول لنا إن الوطن ليس مجرد أرض نسكنها، بل روح تسكننا.
حين اعلن سمو ولي العهد حفظة الله عن إعادة تفعيل التجنيد الإلزامي، لم يكن الأمر فقط عن زيٍ عسكري أو تدريبات ميدانية، بل عن دعوة للعودة إلى الجذور، إلى الانتماء، إلى أن نعيد اكتشاف أنفسنا ونحن نُعطي لا نأخذ، نُشارك لا ننتظر، نُقاتل – لا بالرصاص – بل بالالتزام، والانضباط، والحب.
كثيرون من جيل الشباب لم يعيشوا هذا المعنى من قبل. نشأوا في زمن السرعة، والفردية، والقلق من الغد. بعضهم ضائع بين تخصص جامعي لا يحبه، أو وظيفة لم يجدها أصلًا. البعض الآخر أرهقته المقارنات، والضغط، واللا معنى. وهنا تحديدًا، تأتي الخدمة العسكرية كفسحة وسط هذا الضجيج.
هي ليست عقوبة كما يتخيلها البعض، بل إعادة بناء. لحظة يُجرَّد فيها الشاب من كل الامتيازات الاجتماعية، ويُعاد تشكيله من جديد. يتعلم أن يستيقظ قبل الشمس، أن يربط حذاءه بإحكام، أن يعتني بزميله قبل نفسه، أن يسمع لا فقط يتكلم. إنها مدرسة قاسية، نعم، لكنها صادقة. تعلّمه أن الرجولة ليست بالعضلات، بل بالموقف.
ومع هذا، لا يمكن أن نتجاهل الخوف الذي يسكن بعض العائلات. ماذا عن ابنهم الذي يعمل ليعيلهم؟ أو ذاك الذي على وشك التخرج؟ هل سيؤدي القرار إلى خسارات شخصية؟ إلى تعقيد المستقبل بدلًا من بنائه؟
القلق مشروع. لا أحد يحبّ أن يُؤخذ ابنه من بين يديه دون ضمانات. ولهذا، لا بد أن تكون الخدمة عادلة، إنسانية، ذكية. لا بد أن تكون هناك مكافآت شهرية تُساعد العائلة، ومسارات مرنة للطلاب، وقوانين واضحة تمنع التمييز أو الاستثناءات غير المبررة.
من حق كل شاب أن يخدم وطنه، ومن حقه أن يشعر أن وطنه يخدمه أيضًا. المعادلة لا تكتمل إلا بالاحترام المتبادل.
وقد يُقال: هل نحن مستعدون مجتمعيًا؟ بعد كل هذه السنوات، هل تقبل الأمهات أن يذهب أولادهن إلى الثكنات؟ هل سيتفهم الآباء أن ابنه المدلل سيتعلم القسوة والانضباط؟
الحقيقة أن التغيير مؤلم. لكنه ضروري. ولا أحد يُولد مستعدًا لكل شيء. الوعي يُبنى، والثقة تُزرع، وهذا ما نحتاجه الآن حملات توعوية تُخاطب القلوب والعقول. قصص من الرعيل الاول خاضوا التجربة، وخرجوا منها أكثر نضجًا، أكثر اتزانًا، وأكثر حبًا للحياة.
أما الدولة، فعليها أن تُحسن التنظيم، أن تُدير هذه المرحلة بحب، لا ببيروقراطية. أن تكون الخدمة طريقًا لاختبار الطاقات، لا لإهدارها. أن يكون التدريب عسكريًا، نعم، لكنه يفتح أيضًا أبوابًا لمهن، لتقنيات، لتعليم مستمر. أن تكون هذه الأشهر فرصة للبحث عن الذات، لا ضياعًا لها . ان تترجم الحكومة رؤية سمو ولي العهد الى واقع حقيقي يضمن نجاح التجربة.
في النهاية، نحن لا نريد خدمة العلم فقط لنُعلّم الشباب كيف يحملون السلاح. بل لنُعلّمهم كيف يحملون الوطن في قلوبهم. كيف يتحمّلون المسؤولية، ويتعرّفون على قوتهم، ويشعرون – لأول مرة ربما – أنهم ليسوا مجرد أرقام في الإحصاءات، بل أعمدة في بناء وطن ينهض بهم، وبهم فقط.
إنها لحظة نادرة، فيها كثير من الخوف، وكثير من الأمل. لكن إن أحسنّا الإصغاء للقلوب، قبل الأوامر، وإن أعطينا كما نطلب، فإن خدمة العلم لن تكون مجرد واجب… بل ستكون ذكرى عظيمة يحملها كل شاب في ذاكرته، كأول مرة أدرك فيها معنى أن يُنادى باسمه، فيجيب: حاضر… من أجل الوطن.








