هجرة العقول الأردنية… نزيف يهدد الحاضر والمستقبل
سوزان ابو بكر
لم تعد ظاهرة هجرة العقول الأردنية أمرًا عابرًا يمكن التغاضي عنه، بل غدت قضية وطنية كبرى تستحق الوقوف عندها طويلًا. فما من بيت أردني يكاد يخلو من شاب أو شابة، طبيبًا كان أم مهندسًا أو معلمًا، حمل حقيبته وغادر أرض الوطن بحثًا عن فرصة عمل تليق بجهده وعلمه. هذه الظاهرة، وإن بدت في ظاهرها وسيلة للنجاة الفردية، إلا أنها في حقيقتها نزيف صامت يستنزف طاقات الأمة ويهدد مستقبلها.
لقد أنفقت الدولة، وأنفقت الأسر الأردنية من مالها وجهدها وعرقها، سنوات طويلة في تعليم هؤلاء الشباب وإعدادهم، حتى صاروا مؤهلين قادرين على العطاء. لكن حين ضاقت بهم سبل الرزق في وطنهم، وحين وجدوا الأفق مسدودًا أمام طموحاتهم، لم يجدوا سوى أبواب المطارات سبيلًا لتحقيق أحلامهم.
إن البطالة المرتفعة، وضآلة الأجور، وضبابية المشهد الاقتصادي، جميعها عوامل دفعت الشباب الأردني دفعًا إلى الهجرة. وليس الأمر مقتصرًا على حديث العاطفة أو الشعور بالظلم، بل هو واقع ملموس تؤكده الإحصاءات التي تكشف عن آلاف الأردنيين الذين يغادرون سنويًا نحو دول الخليج وأوروبا وأمريكا وغيرها، حاملين معهم خبراتهم وكفاءاتهم.
والمفارقة المؤلمة أن كثيرًا من هذه الدول التي تستقبل الأردنيين، تبني نهضتها الحديثة على أكتافهم. فمن منا لا يعرف أن الجامعات في الخليج يعمّرها أساتذة أردنيون؟ وأن المستشفيات هناك تضيء بجهود أطباء أردنيين اشتهروا بالكفاءة والمهنية؟ بل إن قطاعات كاملة في بعض الدول العربية والأجنبية ما كان لها أن تنهض بالسرعة ذاتها لولا إسهام الأردنيين فيها. إنهم يساهمون في تطوير التعليم والصحة والهندسة والتكنولوجيا في بلاد الغربة، في الوقت الذي يقف فيه وطنهم في أمسّ الحاجة إلى عطائهم.
إن هذه الهجرة ليست مجرد انتقال فردي من بلد إلى آخر، بل هي استنزاف للمجتمع بأسره. فكل شاب يهاجر يترك خلفه فراغًا في أسرته، ويزيد من معاناة أهله، ويعمّق الفجوة بين الأجيال. أما الوطن، فيخسر عقولًا كان يمكن أن تكون وقودًا لمشاريع التنمية، ومحركًا للإصلاح الاقتصادي والاجتماعي.
لقد أكد جلالة الملك غير مرة أن الشباب هم الثروة الحقيقية للأردن، وأن الاستثمار في الإنسان هو أعظم استثمار. غير أن التحدي الكبير الذي يواجهنا اليوم هو كيف نعيد الثقة لشبابنا، وكيف نجعلهم يرون مستقبلهم في وطنهم لا في بلاد الغربة. فالإصلاح الاقتصادي وحده لا يكفي، ولا بد من مشروع وطني متكامل، يفتح أمام الشباب آفاق العمل والإبداع، ويجعل من الأردن أرضًا جاذبة لا طاردة.
إن نهضة الأمم لا تقوم على الثروات الطبيعية وحدها، بل على طاقات أبنائها. والأردن، وإن كان محدود الموارد، إلا أنه غني بعقول شبابه وكفاءاتهم. فإذا استمر نزيف الهجرة، فلن نخسر أفرادًا فحسب، بل سنخسر مستقبلًا كاملًا كان يمكن أن يُبنى بسواعدهم.
ويبقى السؤال الذي يطرق الضمائر قبل العقول: هل سنظل نودّع أبناءنا على بوابات المطارات، لنرى عطاءهم يزهر في بلاد الآخرين، أم سنبادر إلى بناء وطن يحتضنهم ويمنحهم ما يستحقون من فرص وكرامة؟








