شاهدٌ شعري على موتٍ لا يَهزمُ الحياة: قراءة في "الموت في غزّة" لحميد سعيد

{clean_title}
الشريط الإخباري :  

لهيب عبدالخالق

 

في قصيدته "الموت في غزّة"، لا يكتفي الشاعر العراقي حميد سعيد بأن يرثي المدينة أو يوثّق وجعها، بل يُخضع الموت نفسه للمساءلة، كأنه يجرّده من سلطته المتعالية، ويُحيله إلى كائن متقلّب، طفيلي، هشّ، يمكن للشعر أن يُقوّضه، وللذاكرة أن تُقاومه. هنا، لا يكتب حميد سعيد عن غزة بوصفها مكانًا منكوبًا فقط، بل بوصفها رمزًا للأنثى-الأرض، للخصب المقاوم، للكرامة التي تكتب التاريخ بدمها وملحها، لا بصوت المنتصرين.

القصيدة تنتمي إلى شعر الموقف والمقاومة، لكنها لا تصرخ، ولا تخطب، بل تبني موقفها الجمالي من خلال توازن دقيق بين الفجيعة والتأمل، بين المجاز والواقع، بين اليومي والأسطوري. منذ عنوانها الصادم "الموت في غزّة"، تفتح القصيدة بابًا على موت لم يعد قدرًا مقدّسًا، بل موت يُطارِد، يُصيب من يشاء ومن لا يشاء، موتٌ يطير بأجنحة، لكنه لا يسمو، بل يهبط على الصغار، يتكاثر في الأزقة، ويتغلغل في البيوت، في الأرحام، في الذاكرة الجمعية.

ومع أن العنوان يبدو مباشِرًا، إلا أن القصيدة تُخالف توقعات القارئ؛ فليست تأريخًا للحرب، ولا خطابًا سياسيًا، بل بناءٌ شعريّ مشبع بالإيحاء، يعتمد على إيقاع داخلي، وانسياب حرّ، وتقطيع مقصود للجمل والمقاطع، يجعل القارئ يتنقّل بين الصور كما يتنقّل الناجي في مدينةٍ أكلها الدمار. الفراغات المتكررة، تلك النقاط المتتابعة التي تفصل بين المقاطع، ليست ترفًا شكليًا، بل لحظات صمتٍ محمّلة بالمعنى، صمت الذاكرة، صمت المترقّب، صمت من لم يجد ما يقول أمام ما لا يُقال.

تفيض القصيدة بصور شعرية ذات طاقة رمزية كثيفة، لعل أبرزها ذلك الاستهلال:

"للموتِ أجنحةٌ ..

يطيرُ بها إلى من لا يشاء .. ومن يشاءُ من الضحايا"


فالموت هنا ليس قَدَرًا أعمى، بل طائر مُفترس، يرفرف بجنون، يختار فرائسه دون منطق، بما يخلق مفارقة تُقوّض تصورنا التقليدي عن الموت العادل أو الطبيعي. إنه فعل اعتداء، لا نهاية حتمية. ثم تتوالى الصور الصادمة: البيوت تختفي، الخبز يغادر المدينة، الجمر يخرج من الأرحام... كأن الشاعر ينسج بانوراما رمادية لمدينة تُغتال ببطء، لكنها لا تتهاوى.

ومن بين هذه الصور، تبرز صورة "الجمر في الأرحام" كذروة بلاغية. فالرّحم، رمز الولادة، يتحول إلى مهد للغضب، ولانفجار قادم، ما يجعل الجوع ليس فقط ألمًا ماديًا، بل محرّكًا للثورة، للولادة الجديدة. كذلك، تتجلى المفارقة الدرامية حين تتحوّل الصبايا الحالمات إلى "عرائس"، ليس بمعنى الفرح، بل قرابين لزفّة الموت، فيما تطعم الأمهات الجائعين من "وشل" — صورة تجسّد الكرامة التي تصر على الحياة، حتى حين لا يكون الماء صالحًا للشرب.

تُستخدم الأسئلة في القصيدة كآلية وجودية، لا لطلب الإجابة بل لفضح اللاجدوى، كقول الشاعر:

"لماذا.. لم تعد تتواصل الأشجار..؟"

سؤال يبدو بسيطًا، لكنه يحمل في طيّاته فقدانًا عميقًا للروابط، للحياة التي كانت. كما يفتتح الشاعر قصيدته ويختمها بالجملة نفسها: "للموت أجنحة"، في بناء دائريّ، لكنه لا يغلق النص، بل يعيد طرحه كل مرة من زاوية جديدة، ما يُبقي سؤال الموت حاضرًا، ومفتوحًا على الاحتمال.

غزة، في هذا النص، لا تُعامل كجغرافيا، بل كأنثى أسطورية: مخصبة بالموت، لكنها تحتفظ بخصوبتها، منتهَكة لكنها لا تستسلم، تكتب وتحفظ وتقاوم. يقول الشاعر عنها:

"يا أنتِ يا امرأةً حصان

كيف استباح حماكِ أوغادٌ"...

وهو نداءٌ شعريّ يخرج من الحزن إلى الكرامة، ومن الرثاء إلى الدفاع، دون أن يتخلّى عن بلاغته أو رمزيته. الموت، من جهة أخرى، يتحول إلى شخصية تُفكّك هيبتها:

"كأن الموت صيّادٌ جبانٌ يقنصُ الأفراخ...

ويفرّ حين يرى الصقور"

هنا تُهدم صورة الموت الباسل، ويُعاد تشكيله كعدو خسيس، لا يواجه، بل يغدر، وهذا قلبٌ دراميّ عنيف لمعادلة الفقد. أما البُعد السياسي، فلا يُصرَّح به، بل يُلمّح إليه ضمنيًا، بإدانة من "كذبوا على غزة"، ممن يبيعون الكلام، ويستغلون الوجع، ويدّعون المقاومة وهم غائبون عن معاركها. لكن هذا النقد لا يُقال بلغة خطابية، بل بلغة شعرية تُخاتل وتُراوغ، ما يمنح النص كثافته الشعرية، ويحفظ له نقاءه الجمالي.

تعمل القصيدة إذن على مستويات متراكبة: هي نسيج من الثنائية - الحياة والموت، الكتابة والغياب، المرأة والأرض، القصيدة والتاريخ. لا تُسلّم للموت بالكلّية، بل تشتبك معه، وتقدّم الشعر بوصفه أداة للبقاء، للحفر في الذاكرة، للردّ على العدم. وحين يقول الشاعر في الختام:

"تُدخلينَ شواهدَ الموتى..

إلى ما يحفظ التاريخ منها"

فهو لا ينعي، بل يوثّق. لا ينكفئ، بل يُشير إلى أن الذاكرة، والشعر، والشهادة، هي أدوات النجاة من هذا الطوفان المستمر.

قصيدة "الموت في غزة" ليست مرثية، بل شهادة. ليست نصًا عن الضحية، بل عن الناجية. قصيدة تتكئ على تقاليد الحداثة، لكنها لا تنفصل عن الوجع الجمعي، وتجعل من الشعر مرآة للموت - لكن دون أن تنكسر.

 

© جميع الحقوق محفوظة لوكالة الشريط الإخبارية 2024
تصميم و تطوير
Update cookies preferences