السحر في زمن "اللايف": من أوهام الماضي إلى تجارة التيك توك

{clean_title}
الشريط الإخباري :  

 

بقلم سوزان أبو بكر 

وأنت تتصفّح "تيك توك" في منزلك، باحثاً عن مقطع طريف أو بثّ عابر لتسلية وقتك، قد يفاجئك مشهد غير متوقع: رجل بملامح غامضة، أو امرأة تتحدث بجدية لافتة، تعلن بثقة أنها قادرة على "فك السحر"، "جلب الحبيب"، أو "كشف الطالع" مقابل مبلغ مالي أو هدية عبر التطبيق. لحظات قليلة، ويتحوّل البث المباشر من مساحة ترفيه إلى مسرح للوهم، حيث يُعرض السحر والشعوذة في ثوب عصري رقمي، وكأننا أمام نسخة حديثة من أسواق الدجل، لكنها اليوم تتغذى على سرعة الإنترنت وفضول المتابعين.

إن من يتأمل ملامح هؤلاء "السحرة الرقميين" في بثوث التيك توك، يدرك سريعاً أننا لسنا أمام أشخاص عاديين، بل أمام شخصيات تعيش على استغلال الضعف الإنساني وتغذّي أوهامها من عقول الآخرين. إنهم لا يظهرون كمنقذين بقدر ما يكشفون عن وجوه باردة، تخلو من التعاطف، تحترف التلاعب النفسي وتبيع الوهم بوقاحة. تراهم ينسجون جُملاً مبهمة، يوحون بامتلاك أسرار الغيب، بينما في حقيقتهم مجرد تجّار يقتاتون من ألم الناس، أشبه بمرابين روحيين يقايضون اليأس بالأموال. اجتماعياً، هم انعكاس لفئة تتفنن في اصطياد الفراغ العاطفي والقلق الوجودي الذي يعيشه كثيرون، فيحوّلون حاجات الناس الطبيعية إلى سوق مفتوح لبيع "الخلاص الزائف".

هذا المشهد لم يعد نادراً، بل أصبح ظاهرة آخذة في التوسع. فقد وجد السحرة والدجالون في منصات التواصل الاجتماعي بيئة خصبة لتسويق الوهم، بعدما انتقلت ممارساتهم من الأزقة المظلمة والبيوت السرية إلى فضاء افتراضي مفتوح للجميع. واللافت أنّ هذه العروض لم تعد موجهة إلى جمهور محدود، بل تصل إلى آلاف بل ملايين المشاهدين في لحظات، مما يمنحها خطورة مضاعفة وتأثيراً واسع النطاق.

من الناحية النفسية والاجتماعية، يستغل هؤلاء الدجالون ضعف الناس وحاجاتهم العاطفية أو الاقتصادية. شاب فقد حبيبته، امرأة تبحث عن الاستقرار، أو شخص مأزوم يريد التخلص من طاقة سلبية… كلهم يصبحون زبائن محتملين يطرقون أبواب "السحر الأونلاين" بحثاً عن حلول سريعة لأوجاعهم. وما بين جهل وخوف ورغبة في الخلاص، يمدّ البعض يده بالمال، في حين يمدّ الساحر يده بالوهم.

الخطير أيضاً أنّ هذه الممارسات تُقدّم بشكل علني، بل وتتلقى دعماً غير مباشر من آليات الربح في المنصات ذاتها. فكلما زاد عدد المشاهدين والهدايا الافتراضية، تضاعف دخل الباثّ، ما يحوّل السحر إلى تجارة مربحة تقتات من ضعف البشر وتغيب عنها أي رقابة قانونية صارمة. وهنا يطرح السؤال نفسه: كيف يمكن أن تُترك عقول الناس لعبة سهلة بين يدي من يمارسون الدجل في وضح النهار، بينما تلتزم القوانين صمتاً مريباً؟

أما أخطر ما في الظاهرة فهو انتشارها بين الفئات الشابة والمراهقين، الذين يدخلون هذه البثوث بدافع الفضول أو التسلية، ليجدوا أنفسهم أمام خطاب يُطبع في وعيهم فكرة أن السحر "حقيقة لا مفر منها" وأن الدجال "منقذ" يملك مفاتيح الغيب. هذه التربية الخفية تمثل قنبلة موقوتة تهدد جيلاً كاملاً، وتعيد إنتاج الجهل في ثوب تكنولوجي حديث.

إن مواجهة هذه الظاهرة لا تتطلب فقط وعياً فردياً، بل أيضاً تحركاً مؤسسياً وتشريعياً. لا بد من رقابة جدية على هذه المحتويات، وتجريم من يمارسون السحر العلني عبر المنصات، إلى جانب نشر التثقيف المجتمعي والإعلامي الذي يكشف أساليبهم الخداعية ويحصّن العقول ضد الإيمان بالأوهام.

في النهاية، يبقى "تيك توك" مجرد منصة، لكن مسؤولية ما يُبث عبرها تقع على الجميع: القانون، الإعلام، الأسرة، والفرد نفسه. فبينما يواصل السحرة استعراض أوهامهم تحت أضواء الكاميرات، يبقى الوعي هو السلاح الحقيقي لمواجهتهم.

© جميع الحقوق محفوظة لوكالة الشريط الإخبارية 2024
تصميم و تطوير
Update cookies preferences