أميركا… الحامي الكاذب وفرعون العصر
بقلم: عوني الرجوب
باحث وكاتب سياسي
لأكثر من نصف قرن، اعتاد العرب أن يسمعوا من الولايات المتحدة وعودًا عن الحماية والتحالف الاستراتيجي والأمن المشترك، بينما يكشف الواقع اليوم بما لا يدع مجالًا للشك أن هذه القوة لم تكن يومًا حليفًا حقيقيًا للعرب.
فهي، وعلى مر العقود، لم تقدم سوى الغطاء لتفوق إسرائيل، والدعم المباشر لمساعيها التوسعية، والهيمنة على الموارد العربية وقراراتها السيادية.
القواعد العسكرية الأميركية المنتشرة في معظم الدول العربية والشرق الأوسط، التي يُسوّق لها غالبًا باعتبارها مظلات حماية، هي في الحقيقة أدوات ابتزاز وسيطرة.
فهي لا تتحرك لحماية المدن العربية أو شعوبها، بل للتحكم بالقرار السياسي والاقتصادي في المنطقة وربطها بمصالح واشنطن، وتحمي إسرائيل أكثر مما تحمي العرب.
كم مرة رأينا صواريخ إسرائيل تدكّ لبنان وسوريا والعراق واليمن وتدمّر غزة، دون أن تتحرك أميركا أو تعترض أو حتى ترفع صوتها احتجاجًا؟
بالمقابل، أي صاروخ عربي أو إسلامي ولو بسيط يطلق نحو الأراضي المحتلة تُفعّل كل أنظمة الاعتراض الأميركية فورًا، ويصدر البيت الأبيض بيانات تهديد ووعيد بلا هوادة.
هذه ليست مصادفة، بل سياسة متعمدة تُبيّن من يقف مع من، ومن تُقدّم له الحماية، ومن تُترك دماؤه عرضة للدمار.
إن عهد الرئيس دونالد ترامب جسّد هذه الحقيقة بأوضح صورها.
نقل السفارة الأميركية إلى القدس لم يكن مجرد خطوة رمزية، بل إعلان دعم لا لبس فيه للاحتلال الإسرائيلي، وتحدٍ صارخ للقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة.
والاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان السوري المحتل جاء ليكمل نموذج الانحياز الصارخ، ويثبت أن واشنطن لا تأبه بالحقوق العربية أو بالشرعية الدولية، وأن العرب ما هم إلا أدوات ضغط واستثمار لمصالح أميركا.
أما خفض المساعدات عن الفلسطينيين، فهذا لم يكن سوى ابتزاز سياسي مباشر: حقوق الإنسان تُقايض بمصالح سياسية وأمنية، ومعاناة المدنيين مجرد أوراق في صفقة لا يهم فيها إلا أمن إسرائيل ورضا البيت الأبيض.
ترامب تحدّى كل الأعراف الدبلوماسية، وأظهر للعالم وجه أميركا الحقيقي: قوة فرتوغاسية لا تحترم السيادة ولا تكترث لمعاناة الشعوب.
هو يتحدث بلغة الأوامر، يهدد ويبطش، لا يأخذ برأي أحد من العرب، ويُجبر الجميع على طاعته. كل ما يفعله يخدم إسرائيل ويدعم مصالح الداخل الأميركي، بينما لا يلتفت لدماء أطفال غزة، ولا لدمار اليمن، ولا لصراخ النساء في لبنان وسوريا.
أما الصمت الأميركي أمام الاعتداءات الإسرائيلية، فهو أكثر وضوحًا من أي خطاب: إسرائيل تستبيح لبنان وسوريا والعراق واليمن، وتدمر غزة بلا رادع، بينما أي تهديد صادر عن جماعات مقاومة أو دول صغيرة يثير غضب واشنطن ويُفعّل كل أنظمة القواعد العسكرية، ويخرج البيت الأبيض بالتهديدات.
أي ازدواجية هذا؟ أي معايير؟ هذا هو واقع العرب أمام القوة الأميركية الحقيقية: حماية إسرائيل وابتزاز العرب.
إن القواعد الأميركية في المنطقة ليست للحماية، بل للسيطرة ونهب الموارد.
وفي قطر، حين تعرضت لضربات إسرائيلية، لم تتحرك صواريخ القواعد الأميركية للدفاع عنها، بل كانت واشنطن منسقة للهجوم في الخفاء.
هذا الواقع يوضح أن كل حديث عن تحالف أو شراكة، أو عن حوار يجب احترامه، ليس إلا زينة لغسل الوجه الحقيقي للسياسة الأميركية: الهيمنة والابتلاع.
لقد آن الأوان أن يستيقظ العرب من وهم الحماية الأميركية، وأن يدركوا أن الاعتماد على البيت الأبيض ليس حماية بل استسلام، وأن أي حضور أميركي في منطقتنا لن يجلب سوى وابل من الخراب ونهب الثروات، وتضييع القرار السيادي.
التغيير الحقيقي يبدأ باستعادة الإرادة العربية، وبناء تحالف عربي–عربي قائم على وحدة المصير، والاعتماد على الذات، والقدرة على ردع أي قوة خارجية تحاول فرض شروطها بالقوة أو بالابتزاز.
ولدى العرب من قوة بشرية وأموال ما يجعلها قوة ضاربة على مستوى العالم، إذا قررت أن تملك قرارها بنفسها.
الخلاص لن يأتي من الخارج، بل من الداخل: من شعوب واعية وأنظمة تملك القرار وتفرضه، من اقتصاد عربي مستقل قادر على مواجهة الابتزاز، ومن منظومة دفاعية حقيقية تحمي الأرض والكرامة.
أي رهان على حماية أميركية زائفة هو انتحار سياسي مسبق، وأي استسلام للابتزاز الأميركي يعني خسارة سيادة العرب وحقوقهم التاريخية.
لقد آن الأوان أن يسمع العرب صوت الحق: كفى خداعًا، كفى ابتزازًا، كفى وعودًا فارغة.
أميركا لم تحمِنا يومًا، ولن تحمينا مستقبلًا. هي فرعون العصر، وحامي إسرائيل لا العرب.
وحدتنا واستقلالنا قرارنا نحن، وسنظل نرفع الصوت حتى تستعيد شعوبنا كرامتها وحقوقها، قبل أن نصحو يومًا على واقع تكون فيه الجيوش الأجنبية في عواصمنا، وواشنطن تتفرج وتعدّ أرباحها.
اللهم اشهد أني بلغت، واهد قومي لعلهم يفقهون








