حين يُجرَّم المطبخ وتُشيطَن الوصفة

{clean_title}
الشريط الإخباري :  

سوزان أبو بكر

 

غزة تئنّ، ووجعها يصرخ في كل زاوية: أطفال بلا ألعاب، بيوت بلا سقوف، وسماء تكاد تختنق من دخان لا ينتهي. في قلب هذا السجلّ الإنساني الأسود، تتحوّل أبسط التفاصيل إلى ساحة صراع رمزية: طبق يُطبخ، وصفة تُنشر، وصوت إنسان يريد أن يحيا. وفي الوقت الذي تحاول فيه غزة الحفاظ على كرامتها وذاكرتها، يأتي الإعلام العبري ليصبغ كل فعل بريء بلون الاتهام — وكأن الطهي نفسه أصبح جريمة سياسية.

اتهام الشيف الأردنية ياسمين بأنها "تنشر الكراهية وتحرّض ضد الكيان" ليس مجرد نقد، بل تشويه متعمد وتحويل الحياة اليومية إلى ذريعة لسياسة التجريد. الإعلام الذي يفترض أن يكون أداة للحقائق صار يتحرك كبوقٍ للتحريض، يختصر الثقافة في تهم، ويحاول تحويل مشاركة وصفة طعام إلى ساحة حرب رمزية. وصفة الطبخ ليست بياناً سياسياً، بل ذاكرة شعبية ومقاومة إنسانية صغيرة في وجه الحزن الكبير، لكنهم يصرّون على تصويرها كأداة تحريض.

المشكلة هنا ليست ياسمين وحدها، بل المنطق الذي يحكم هذه الهجمة الإعلامية. منطق يقوم على تحويل الخصم إلى خصم أخلاقي قبل أن يكون سياسياً، وتبديل النقاشات الموضوعية بتحريض لغوي يجعل من كل كلمة دليلاً، ومن كل صورة اتهاماً. هكذا تُختزل الثقافة إلى جريمة، وتُختزل حرية التعبير إلى صراع معايير مزدوجة. الإعلام الذي يغضّ الطرف عن معاناة غزة، يفتح عينيه فجأة على وصفة أردنية ليحوّلها إلى قضية رأي عام.

ما يحدث ليس نقداً، بل تشهيراً ممنهجاً يضيّع الفاصل بين التعبير الفني والتحريض الفعلي. الطهي ثقافة وحياة، لا أداة كراهية. لكن الإعلام الذي فقد توازنه الأخلاقي لا يفرّق بين طنجرة طعام وبيان حرب. وهنا تكمن الخطورة: ليس فقط في الإساءة لياسمين، بل في تحويل أي مبادرة ثقافية إلى تهمة جاهزة.

في مواجهة هذا العبث، لا بد من إعادة تعريف مهمة الإعلام: أن يكون مساحة للتثبت، للتوازن، ولعرض الوقائع كما هي، لا كما تمليها الأجندات. إذا كان هناك تحريض حقيقي، فلتُعرض الأدلة وتُفتح السجلات. أما الاتهامات السريعة ضد شخص يشارك وصفة أو ينشر لمسة إنسانية فهي تشويه للصحافة بقدر ما هي تشويه للإنسانية.

أن تتهم الطهي بالكراهية هو قلب للمعايير رأساً على عقب. أن تختصر وجبة في خطاب سياسي هو نزع لما تبقّى من مساحة مشتركة بين البشر. واليوم، في زمنٍ تبدو فيه غزة أكثر حاجةً إلى أصوات تدافع عن كرامتها من أي وقت مضى، يصبح واجباً أن نقول: رائحة الطعام لا تُجرّم، بل تُذكّرنا أننا ما زلنا أحياء رغم كل شيء.

© جميع الحقوق محفوظة لوكالة الشريط الإخبارية 2024
تصميم و تطوير
Update cookies preferences