بين أنقاض غزة… يولد المعنى الحقيقي للصمود
بقلم: عوني الرجوب
باحث وكاتب سياسي
ما يحدث اليوم في غزة يتجاوز حدود الحرب التقليدية. إنها ليست مواجهة بين جيشين، بل عملية إبادة جماعية تُنفذ أمام أعين العالم. مدنٌ تُمحى من الوجود، بيوتٌ تتحول إلى رماد، عائلات تُدفن تحت الركام، أطفالٌ يبحثون عن لقمة أو جرعة ماء فلا يجدون سوى الحصار والجوع. إنها مأساة متجددة، لكنها في كل مرة تُثبت أن غزة عصيّة على الانكسار.
الصور التي تصل من غزة لا تصف انهيار مبانٍ فحسب، بل انهيار شبكة أمان إنسانية كاملة. مستشفيات تضيق بالألم، مخازن الغذاء تنذر بالجوع، ومنازل تتحول إلى قبور. لكن ما يدهش ليس فقط مقدار الدمار، بل قدر الصمود؛ رجال ونساء وأطفال يعيدون ترتيب حياتهم بقاعدة واحدة: الكرامة لا تُباع.
أشد قسوة من القصف هو الصمت العالمي. بيانات باردة تُحاكي البلاغة لكنها تفتقد الموقف. دعوات “ضبط النفس” لا تُوقف نزيف الدم، ولا تُعيد الحياة إلى الأجساد التي أُزهقت. ازدواجية المعايير بلغت ذروتها: المعتدي يُمنح الغطاء السياسي والدعم العسكري، بينما الضحية تُتهم بالمقاومة “غير المشروعة”. هذا الصمت لا يُدين الضمير الإنساني فقط، بل يفضح تواطؤ النظام الدولي بأكمله.
وسط هذا الجحيم، تخرج غزة لتُعلّم العالم درسًا جديدًا: أن القوة ليست في السلاح المتطور ولا في ترسانة الجيوش، بل في الإيمان بعدالة القضية. شعب بلا جيش نظامي، بلا غطاء دولي، لكنه يقف كالجبل، يواجه الموت بابتسامة الأمل.
الأطفال في غزة لا يصرخون طلبًا للرحمة، بل يرفعون حجارة صغيرة في وجه الدبابات، وكأنهم يكتبون ببراءتهم معادلة الكرامة: الموت ولا المهانة.
القوة الحقيقية لا تُقاس بقدرة السلاح وحدها، بل بقدرة المجتمع على تحويل الألم إلى موقع قوة أخلاقية وسياسية.
غزة اليوم تطرح أسئلة على النخب السياسية: ما قيمة تحالفات تُبنى على مصالح قصيرة الأمد إذا كانت تُقوّض الحدّ الأدنى من إنسانيتنا؟ ما هي لغة السياسة إن خلت من الضمير؟ إن الرسالة هنا مباشرة: التواطؤ السياسي يولّد خسارة استراتيجية طويلة المدى
— خسارة ثقة شعوب، خسارة هيبة، وخسارة مكان لهذه الأمة على خارطة القيم العالمية.
لا يكفي أن نشعر بالحزن؛ المطلوب أن نتصرف. الكلام وحده أصبح رخيصًا؛ الفعل هو المقياس. موقف كل مؤسسة، وكل شخصية عامة، وكل فرد، سيُحسب في سجل التاريخ. هل سنصنع ضغطًا إعلاميًا وسياسيًا حقيقيًا؟ هل سننقل الغضب إلى مبادرات إنسانية عملية؟ هل سنجعل من التضامن فعلًا يعبّر عنه العمل لا التغريدات وحدها؟ غزة تطلب استجابة تتجاوز العاطفة العابرة: استجابة تُعيد الاعتبار للإنسان قبل أي اعتبارٍ آخر.
وراء كل رقم هناك طفل فقد لعبته، أم فقدت ابنها، أب فقد بيته وأمله.
تقليص هذه الوجوه إلى خطابات سياسية مجردة هو جريمة ثانية.
إن الذي يقف أمام صور الجوع والمرض والتهجير ويفتعل تبريرات سياسية ليبرر الصمت، يتواطأ بشكل مباشر مع آلة التدمير. علينا أن نعيد للإنسان مكانه في قلب كل حساب سياسي.
من بين الأنقاض، غزة لا تبعث أنينًا بل صرخة، لا تطلب شفقة بل موقفًا، لا تعرض ضعفًا بل بطولة. إنها تُعلّمنا أن الصمود ليس شعارًا بل دمًا يسيل، وأطفالًا يُستشهدون، ونساءً يصرخن في وجه الموت: “لن نرحل.”
إن تجاهل غزة اليوم ليس خيانة لفلسطين وحدها، بل انتحارٌ أخلاقيٌ للأمة بأسرها. ومن لم يسمع صرختها اليوم، سيسمع لعنات التاريخ غدًا.
غزة لا تُسقط فقط جدران بيوتها، بل تُسقط الأقنعة عن وجوهنا جميعًا. فلتكن هذه اللحظة مفصلًا: أما أن ننهض بمواقفنا وأفعالنا فوريةً—مواقف تضغط، تدعم، وتحمّل المسؤوليات—أو نظلّ نردد عبارات الندم المستقبلي بينما تُرحل الأجيال وتبقى الذكريات شاهدة على خذلاننا. غزة ليست اختبارًا لمن يتفرّج؛ غزة امتحان لمن يريد أن يدّعي الإنسانية.
غزة لا تنتظر دموعنا، بل موقفنا.
من يتجاهل صرخاتها اليوم، سيقرأ غدًا فصلاً من التاريخ يلعنه.
قف الآن… فالصمت هنا ليس حيادًا، بل خيانة.








