الاعتراف بفلسطين… بداية كسر الرواية الإسرائيلية وارتباك نتنياهو

{clean_title}
الشريط الإخباري :  

 

بقلم: عوني الرجوب

باحث وكاتب سياسي

لم يكن اعتراف بريطانيا وكندا وأستراليا بدولة فلسطين مجرد خبر عابر في نشرات الأخبار، بل كان لحظة مفصلية قلبت موازين السياسة الدولية، وأطلقت زلزالًا دبلوماسيًا في قلب العالم الغربي. أن تأتي هذه الخطوة من دول ارتبط تاريخها بالتحالف مع إسرائيل، بل وكانت بريطانيا صاحبة وعد بلفور المشؤوم، فهذا يعني أن النظام الدولي دخل مرحلة جديدة لم يعد فيها الاحتلال قادرًا على احتكار الرواية أو فرض تعريفه للصراع.

هذه الاعترافات لم تولد من فراغ. لقد جاءت نتيجة حرب غزة وما خلّفته من مشاهد إنسانية مروعة أعادت تشكيل الوعي العالمي. صور الأطفال تحت الركام، والمستشفيات المحاصرة، والعائلات التي فقدت كل شيء، لم تعد تفاصيل محلية في نشرات الشرق الأوسط، بل تحولت إلى رمز عالمي يطارد الضمير الغربي ويضغط على حكوماته. وعندما تتخذ لندن وأوتاوا وكانبرا قرارًا جماعيًا بالاعتراف بدولة فلسطين، فإنها لا تمنح الفلسطينيين مكسبًا رمزيًا فحسب، بل تكسر أحد أهم حصون إسرائيل: وحدة الموقف الغربي خلفها.

رد فعل نتنياهو لم يتأخر، فاختار أن يصف الاعتراف بأنه “مكافأة للإرهاب”. غير أن هذه العبارة، على قسوتها، تعكس ارتباكًا أكثر مما تعكس قوة. إسرائيل تعرف أن الاعتراف لا يوقف الاستيطان ولا يرفع الحصار، لكنه يغيّر ميزان الشرعية الدولية ويعيد تعريف صورة إسرائيل في عواصم القرار. فحين يشكك الرأي العام الغربي في خطاب تل أبيب، تصبح قدرة إسرائيل على تسويق نفسها كضحية ضعيفة ومهزوزة. الأخطر أن وصف الاعتراف بأنه مكافأة يفتح الباب أمام تساؤلات محرجة: هل المطالبة بدولة مستقلة إرهاب؟ هل حق تقرير المصير جريمة؟ هذه الأسئلة تتسلل إلى الخطاب الغربي وتضعف منطق إسرائيل أكثر فأكثر.

لقد ظلّت إسرائيل لعقود تتكئ على جدار غربي صلب يمنحها الغطاء الكامل. اليوم بدأ هذا الجدار يتصدّع. وما كان ثابتًا لعشرات السنين أصبح مطروحًا للنقاش والتغيير. والرهان الإسرائيلي على تماسك الغرب يبدو في مهب الريح كلما انضمت دولة جديدة إلى قائمة المعترفين. من هنا يتضح أن انفعال نتنياهو ليس ردًا تكتيكيًا، بل تعبير عن خوف استراتيجي من تحوّل دولي قد يجرّ وراءه اعترافات أوروبية أخرى، ويحوّل إسرائيل من كيان مدعوم بلا حدود إلى دولة تواجه عزلة متنامية في معسكرها التقليدي.

الأردن رحّب سريعًا بالخطوة، وهو موقف طبيعي يعكس ارتباط القضية الفلسطينية بجوهر أمنه القومي وهويته السياسية. غير أن التحدي اليوم لا يقتصر على الترحيب، بل يتطلب تحويل هذه اللحظة إلى مسار سياسي متكامل يقود إلى مكاسب عملية على الأرض. فالاعترافات بحد ذاتها ليست نهاية الطريق، لكنها نقطة انطلاق جديدة تعيد الاعتبار لفكرة الدولة الفلسطينية وتضعها على الطاولة الدولية كحقيقة سياسية لا يمكن إنكارها.

ما جرى ليس انتصارًا نهائيًا ولا نهاية للصراع، لكنه بداية فصل جديد فيه. الاعتراف بثلاث دول غربية كبرى بدولة فلسطين هو إعلان عن سقوط احتكار الرواية الإسرائيلية في الغرب، وبداية مرحلة يكتشف فيها العالم أن فلسطين ليست مجرد قضية إنسانية مؤجلة، بل حق سياسي وقانوني لا يسقط بالتقادم. إنها لحظة تاريخية ينبغي للفلسطينيين والعرب أن يستثمروها بوعي، وأن يحوّلوها إلى رافعة تفرض على العالم الاعتراف بفلسطين كدولة حية وشعب صامد وحق لا يُكافأ بل يُنتزع

© جميع الحقوق محفوظة لوكالة الشريط الإخبارية 2024
تصميم و تطوير
Update cookies preferences