دهاليز الزمان والكذب والمراوغة
…
عوني الرجوب
باحث وكاتب سياسي
في زمنٍ تتبدّل فيه المواقف كما تتبدّل الأقنعة، ويُزيَّن فيه الكذب بألوان الدبلوماسية، يكتب عوني الرجوب من دهاليز الزمان والمراوغة، عن واقعٍ يُحاكي السياسة كما هي — لا كما تُروى — وعن الشعوب التي لا تزال تصنع المستحيل حين تؤمن أن الصدق هو السلاح الأخير.
في هذا الزمان، صار الكذب سياسه والمراوغة دهاء، والحقُّ تهمة تحتاج إلى تبرير.
أصبح العالم مسرحًا كبيرًا يُدار من خلف الستار، تتبدّل فيه الأدوار، ويُعاد توزيع النصوص، لكن النهاية تبقى واحدة: الشعوب هي الضحية، والمخادعون هم الأبطال المؤقتون.
كل ما كان يُروى في كتب التاريخ عن الغدر السياسي بات يُعاد الآن بمؤثرات صوتية وابتسامات دبلوماسية.
نرى ساسة يتحدثون عن السلام بأصابع ملطخة بالحروب، وعن العدالة بأيدٍ تعانق القتلة.
تتحرك الكاميرات، وتُصفّق الجماهير، ويُصدّق الناس مشهدًا كُتب بعناية لإخفاء الجريمة الكبرى: خيانة الحقيقة.
من دهاليز هذا الزمان تُدار المعارك لا بالسلاح فقط، بل بالكلمة المسمومة، وبالخطاب الذي يجمّل الباطل ليبدو منطقًا، ويُخرّب العقول قبل أن تُدمَّر المدن.
فيه تُغتال الضمائر على موائد السياسة، وتُستبدل الأوطان بالصفقات، وتُمنح الشرعية للباطل لأنه يملك القوة، ويُحاصر الصادق لأنه يملك الإيمان.
لكن التاريخ لا يرحم المراوغين، والزمن لا يُهادن الكذابين.
كم من سياسي صعد على أكتاف الأكاذيب، فظنّ نفسه خالدًا، ثم تهاوى حين كشف الله عنه الغطاء، فعاد مجرد اسم في الهامش، وذكرى في قائمة العار.
إن الشعوب — وإن صمتت — لا تنام.
ربما تتعب، وربما تُخدع حينًا، لكنها تظلّ تحفظ أسماء من كذبوا عليها، وتنتظر لحظة الحساب.
وحين تنهض، فإنها لا تُفاوض، بل تقتلع المراوغة من جذورها.
سيبقى في كل عصر صوتٌ لا يُشترى، يكتب بالضمير قبل الحبر، ويدافع عن الحقيقة ولو وحيدًا.
ذلك الصوت الذي يُربك المراوغين، لأنه لا يسعى إلى منصب، ولا يخشى خسارة، بل يخاف فقط أن يُصافح الكذب.
وسيبقى الأمل هو المعركة الأجمل — معركة لا تُخاض بالسلاح، بل بالإيمان بأن الحق وإن تأخر، فإنه لا يُهزم.
فالأوطان لا تُبنى بالأقنعة، بل بالصدق، ولا تنهض الشعوب بالمراوغة، بل بالإصرار على أن الحق لا يُفاوض، والكرامة لا تُقايض.
وفي نهاية كل دهليز، سيبقى النور الذي لا يخونه الوميض.
نورٌ يصنع المستحيل حين تؤمن الشعوب أن الصدق قوة، وأن الزمن مهما التوى، فالله لا يخذل الصادقين








