صيغ الحكم الذاتي يسيطر على فكر "ترامب" والشرق الأوسط في طور اعادة رسم خرائطه الجغرافية ..
د. حازم قشوع
يبدوا ان الرئيس دونالد اخذ يعنون مشاريع للحكم الذاتي باعتبارها الخيار البديل عن إقامة الدول، كونه خيارا بديلا عن الانفصال الذي يؤدي للاستقلال، كما هو بديلا عن الدمج القائم على المواطنة الذي بات صعب المنال في ظل الاشتباكات العسكرية السائدة، لكنه يبقى الحل الوسطي الذي يفض النزاعات وينهي الأزمات المستعصية على اعتبار أن هذا الحل يخدم أغراض الحفاظ على الهوية الذاتية للمجتمعات بإطار الحكم الذاتي، ويحقق رغبات الدول المركزية بالسيادة السياسية وتطلعات المجتمعات بالخصوصية المناطقية التي تخدم أغراض الاعتراف بالهوية الفرعية بإطار السيادة العامة لدول المركز، على أن يأتي الحكم الذاتي المراد تشكيله ضمن قرار أممي يصدر لهذه الغاية.
وهو الحل الذي يمكنه من تحقيق تطلعات الفرقاء وكذلك فض النزاعات البينية معنونا بذلك جملة الحل التي تعطي لكل طرف العنوان الشكلي لما يريد، وإن كان لا يعطى المضمون المبتغى للنزاع الذي يقود للإقصاء الديموغرافي / الإنفصالي الجغرافي لهذا الطرف أو ذاك، وهو المعطى الذي سيشكل أرضية مصالحه توافقية تبتعد عن الإقصاء كما تبتعد عن الانفصال فى ظل عدم التوافق حول مسألة الاندماج تحت راية دولة المواطنة، التي ستكون بعيدة عن الكثير من المجتمعات إذا ما تم اعتماد هذا النهج ليكون بديلا عن الجغرافيا السياسية التى تقوم عليها منهجية الدول والأوطان بشكلها الحالي.
وهو النموذج الذى يتم بلورته بإقليم الصحراء المغربية عبر مفهوم "الحكم الذاتي الحقيقي بمشروعية أممية تتضمن التفاصيل"، كما يمكن بيانه بإقليم دارفور السوداني لفض النزاع الدائر بالسودان ليكون بديلا عن حالة الانفصال التي تمت مع الجنوب، وهو ذات الخيار الذي من المهم إسقاطه كما يعُتقد لإنهاء تعقيدات القضية الفلسطينية بكل ظروفها عن طريق تشكيل حكومة ذاتية في الضفة، وحكومة أخرى في القدس، وحكومة مغايرة في قطاع غزة، كما يمكن تسوية ذات الإشكالات بدول ومجتمعات اخرى حيث الأكراد والدروز والطوارق وغيرها من نماذج الدول التي أخفقت بتشكيل "دولة المواطنة"، على حد وصف الاستنتاجات التي ذهبت إليها توصيات مطبخ بيت القرار الأمريكي، الذي أوصى باتباع نماذج مناطقية بمحددات إقليمية وبعناوين حكم ذاتي حقيقي تكون في مضمونها أكبر من الفدرالية وأقل من الكونفدرالية، لكنها تبقى محافظة على هوية المجتمعات ضمن الخصوصية المناطقيه فيما تبقى دول المركز تسيطر على الجغرافيا السياسية في حدودها السيادية.
ولعل مشاريع الحكم الذاتي هذه التي من المتوقع بيانها باسقاطات ليست اختيارية بل عبر وجبه إلزامية مفروضة، يجدها بعض السياسيين أنها تشكل مدخل الحل الأمثل للمشكلات المستعصية في مجتمعات جنوب العالم التي مازالت تعيش بشكل دوله لكنها تبتعد عن مضمون تشكيلها، وهذا النموذج الذى لم يحققه برنامج سايكس وبيكو للمنطقه العربيه عندما قام بترسيم الجغرافيا السياسية للأوطان والدول، وذلك بسبب افتقارها لتحقيق جملة الاستقرار المبتغاه التي كان من المفترض أن تحققها هذه الأنظمة على حد تعبير مطبخ القرار، الذى قدم موجبات تقديم برنامج مشاريع الحكم الذاتي المطروحة لإنهاء الازمات المستعصية، لكنها قد تكون الباب وربما تشكل الأرضية التي يمكن عبرها تنفيذ مرامي إعادة فك وتركيب خرائط الجغرافيا السياسية لمستقرات الأوطان، وهذا ما يجعل من هذا البرنامج يحتوي على محاذير كبيرة لما يحويه من شبهات تطال مستقرات الدول التي باتت مجتمعاتها تعيش حالة أمان واستقرار، كما أنه سيشكل تلك المنزلة الأولى في برنامج إعادة تشكيل قوام الجغرافيا السياسية للدول والمجتمعات معا، لتكون منحازة للاثنيه او العرقية او المذهبية فى بيان العقد المجتمعي "الدستور" بين المجتمع والنظام القادم.
ولعل مشاريع الحكم الذاتي التي يجري الحديث حولها باروقة بيت القرار فى البيت الأبيض باتت تعتبر الحل الأمثل وفق هذه المعطيات لحل الأزمات المستعصية التي أخذت تشكل جملة تنفيذها معضلة خطيرة بسياقها العام، كونها تقوم على فرض هذه الأجندة دون النظر لتبعات تطبيقها أو حتى مناقشتها بالحواضن المستهدفة قبل اقرارها او حتى بيانها وفق أرضية حوار قويمة، وهذا ما يجعل من مسألة المقاومة الذاتية لهذه الأجندة الساقطة مسألة صعبة، لأن الهوية الفرعية المناطقيه ستكون أعمق من الهوية الوطنية عند إجراء الاستفتاء أو عند الشروع بإجراء الانتخابات في الأطر المناطقية، والتى ستجرى فيها لغاية إعطاء شرعية للحكومات الذاتية، لاسيما وأن هذا النموذج سيكون صادر بالشكل كما بالمضمون العام عن الأمم المتحدة باعتبارها تشكل الحماية والشرعية، الأمر الذي سيعطي للحكم الذاتي زخما شعبيا واخر رسميا عبر مقررات الشرعية الأممية.
وعلى الرغم من افتقار نماذج العمل للحكم الذاتي لمشروعية الحواضن الشعبية لاسيما مع بداية اسقاط برنامج هذه الحلول كونها ستكون مؤجلة / مرجئة إلى ما بعد فرض الحل بالاسقاط العلوي، إلا أن المرحلة الثانية من تطبيق هذا البرنامج ستحقق درجة المشروعية عند إجراء الانتخابات المناطقيه ذات الهوية الفرعية في الأماكن التي يتم اعتمادها لهذه الغاية، وهذا ما يعني أن الانظمة المركزية "الوطنية" سيكون دورها هامشي وليس اساسي عندما يتم إجراء الانتخابات ضمن الأطر المناطقيه، حيث سيكون للصوت المناطقي أو للهويات الفرعية تغليب على حساب الإطار الوطني الجامع، وهو الإطار الذي بات مستهدف بحكم ما يتم طرحه من مشاريع لحلول الحكم الذاتي المعروضة على طاولة الإقرار.
وحتى يتم القياس على ما هو معروض لبيان الرأي، فإن تفتيت الهوية النضالية الفلسطينية عبر حكومات محلية منفصلة عن بعضها البعض بالنهج كما فى مرجعيات الحكم الذاتي في الضفة وأخرى في قطاع غزة وحكومة مركزية التعدد فى القدس، سيكون محض تحفظ بالشكل كما فى المضمون العام من قبل الشعب الفلسطيني الذي تقوم فكرة نضالاته للمحافظة على استقلالية قراره وبيان هويته لتكون موحد من الداخل كما بالشتات.
وهو معطى يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار عن إسقاط الحلول الذاتية على المنطقة وعلى قضيتها المركزية على وجه الخصوص، سيما وأن فلسطين أصبحت أيقونة الحرية للإنسانية جمعاء، فإن تصفية القضية الفلسطينية بهذه الطريقة يجده كثير من السياسيين المطلعين أمر غير منصف ولن تحمله الأجيال أو تصونه حواضن الشعوب، ولن يكون مقبولا عند الجميع سيما أن مسألة إسقاط الحلول بهذه الطريقة سيعيد خلط الأوراق من جديد و سيدخل المنطقة بدوامة اخرى لن تستطيع بموجبها الإدارة الأمريكية من السيطرة على أجواء المنطقة في حال اندلاع شرارتها من جديد، لاسيما وان نقاط التماس بين الشعب الإسرائيلي ودول الجوار هى نقاط صفرية مع استمرار التصعيد بهدف الاستحواذ الإسرائيلي على الجنوب اللبناني والجنوب السوري.
وأما مسألة خلخلة مستقرات سوريا والعراق وايران وتركيا لإعطاء أحكام ذاتية في المناطق الكردية المعترف فيها أمميا، وهى المناطق المسلحة نوعيا بالعراق وسوريا كما تحمل حله متممة في تركيا وأخرى خامدة بإيران، فإن هذه الخلخلة من شأنها أن تؤدى لإدخال المنطقة بحالة من عدم اتزان ستعصف بمستقراتها، وهذا ما سينتج عنه فوضى ستغرق المنطقة في حال اندلاعها ببرنامج الفوضى الخلاقه التى سينتج بنهايتها تشكيلات جغرافية ضمن اطر مناطقية تقوم على أساس اثنيات او مذهبيات، وهذا ما يبعدها عن الشكل المدني الذي تقوم عليه ظروفها الحالية خصوصا فى الدول الكبرى المستهدفة بسبب ميزان نموها و ثقلها الدبلوماسي فى العالم الوازن حيث السعوديه ومصر التي تعيش حالة ضدية مع إثيوبيا فى القارة الإفريقية، وهذا ما جعل بعض السياسيين / الأمنيين يستهدفون أشغالها في بواطن الصومال ودارفور وحتى في جيبوتي، ويطاف حولها لخلخلة قوام مستقراتها من أولئك الذين يحملون فكره تعميد إسرائيل كدولة مركز بالمنطقه.
وهو الاستهداف الذي تنبهت إليه الاردن وتجده يشكل تحدي يستحق المواجهة السياسية وبناء تحصينات أمنية مع دول المشرق العربي من أجل حماية الهوية العربية التي أصبحت مهددة كما مستقرات المنطقه ايضا، على الرغم من الحالة الدبلوماسية التي يقوم بها البيت الأبيض لتحسين صورته عبر لقاءاته مع قيادات المنطقة العربية في البيت الأبيض ومحاولات الرئيس ترامب من بيان مظاهر السلام بالتعاطي بحزم بسياسته تجاه وقف اطلاق النار، الا ان كل ذلك يقام فوق صفيح ساخن حبث تنذر عواقبه بعودة حالة التصعيد من جديد بعد أنتهاء فترة الهدنة الحاصلة، وهذا ما تبينه حالة الحوارات السائدة التي تشي بأن الجملة الأخرى القادمة ستكون أكثر سخونة من تلك التي حملتها مسألة تدمير غزه لغايات السيطرة والاستحواذ على الغاز والمواد الطبيعية اضافة لفتح قناة بديلة لقناة السويس للسيطرة على النقل البحري بشكل عام، فما لم تستطع تحقيقه إسرائيل عبر إعادة الاحتلال والتهجير بالقوة العسكرية، فإن ذلك أصبح يمكن تحقيقه أمريكيا عبر الاستحواذ بواسطة قرار أممي يصدر لهذه الغاية ليس مبوبا فيه حتى مدة تاريخ انتهاء المرحلة المؤقتة لوجود القوات الأمريكية والدولية في قطاع غزة.
وهي المحصلة التي تعني نتائجها حاله متباينة في الشكل والمضمون، ذلك إن استهداف إيران بالشكل العام أخذت ما تكون نتائجه بالمضمون لصالح إيران، كونها باتت تمثل تيارها على طاولة المفاوضات، كما لصالح تركيا التي نجحت بتغيير النظام السوري وشرعنة حضوره كما تقوم بالدخول لقطاع غزة باعتبارها لاعب أساس، وهو ما يتم على حساب المنطقة العربية فى عمق مشرقها ومن مدخل متمم فإن ما حدث من إفراط باستخدام القوة في قطاع غزة كان يستهدف إرهاب دول المنطقة من اجل شراء اسلحة من الشركات الأمريكية ومن شركات دول المركز ولم يكن فقط يستهدف الاستحواذ والتهجير في فلسطين، وهي المحصلة التي يجدها محللين أنها تشكل حالة الاقتسام بين اسرائيل وايران وتركيا بعد انتهاء مسألة إعادة التموضع لهذه الدول لتكون مؤطرة بشكل محكم تحت المظلة الأمريكية لتحمل كل منها سمة دور وظيفي جديد، وهو البرنامج الذي يجده سياسيين أنه يؤثر بدرجة كبيرة على الأمن الإقليمي والسلام الدولي والذى بات يستوجب استدراك جاد وليس استدارة ضمنية تقوم على التفاهم من باب الاحتواء.
فإذا كانت هذه السياسات في السابق قد خدمت مسألة المناورات الإسرائيلية الايرانية وجيوبها فقد لا تكون مفيدة فى المستقبل المنظور ظل خلخلة المركبات الديموغرافية للمجتمعات العربية، التي من الواضح أنها قد بدأت بإغلاق ملف قطاع غزة وبتسويف الإدارة الأمريكية مسألة الاعتراف بالدولة الفلسطينية على الرغم من طوفان الاعتراف الذى صاحب مسألة التأكيد على حل الدولتين باعتباره الأساس بتنفيذ قرارات الشرعية الدولية، وهذا ما جعل من سياسة الإدارة الأمريكية غير منسجمة بالسياق العام فهي متباينة بين بيان ما تقول وجملة ما تفعل، حيث يقف هذا التحليل على المفارقات الضمنية في هذه السياسات والذي يوصي بضرورة التفاف المجتمعات العربية حول قيادتها عبر برنامج مشاركه يقدم لهذه الغاية، وتعزيز قنوات التواصل بين دول المشرق العربي من أجل تحصين مناخاتها وتكاتف دولها أمنيا واقتصاديا كما سياسيا في المقام الأول.
واستنادا لما تقدم فإن العمل على تعزيز مضمون الوحدة الوطنية بالشكل كما فى المضمون العام يتطلب ترسيخ مفاهيم الوحدة القائمة على المواطنة عبر توحيد الصفوف بالإطار الأمني كما في الإطار العسكري، ليتوحد الجميع في وحدة الدم خلف القيادة الهاشمية ورص الصفوف فلا يخترقها إلا الهواء النقي، على أن يتم الانتهاء التدريجي من الاستراتيجية الاحترازية من أجل توطين الاستثمارات عبر عودة الكفاءات كونها قادرة على بناء منشآت إنتاجية من وحى تشكيل سمات العلامة الفارقة الإنتاجية، وكذلك تقديم الاردن لمشروعه تجاه الاقتصاد الإنتاجي ليحول الأردن من دولة سكن الى دوله عمل، كما أن ذلك يتطلب إطلاق برنامج خاص يعلي من تصنيفات الجواز الاردني في الدخول لدول العالم اعتمادا للعلاقات الكبيرة لقيادتنا الهاشمية، وكذلك العمل لتنفيذ مشروع الحكم المحلي كونه قادر على وضع مخطط شمولي للاستثمار، وهي الروافع التى من شأنها حماية الدولة ومؤسساتها وذلك عبر تحويل المنعطف القادم إلى منطلق قادر لتحسين المستوى المعيشي للمواطن، والعمل على توسيع رسالة البناء الوطنى لتشمل الكل الجغرافي والكل الديموغرافي من أجل حماية الذات الوطنية من أجواء التعرية والتجوية التي قد تقذفها تداعيات حلول الصيغ للحكم الذاتي.
* تحليل بحثي








